جمال الخريشة .. رجل الدولة وشيخ العشيرة
أحمد الحوراني
22-11-2025 12:10 PM
رحل جمال حديثة الخريشة، رجل الدولة وشيخ العشيرة، بعد حياة لا يمكن النظر إليها بمقدار عدد السنوات التي عاشها، بقدر ما يمكن أن تُقاس بحجم ما قدم وأعطى لوطنه وأمته وعشيرته، إلى درجة يمكننا القول إزاءها أن حياة أبو حديثة كانت أنموذجًا تجاوز فيها الأدوار المعتادة والمتعارف عليها للإنسان، وأذكر حديثًا دار بيننا في منزله سنة الفين وثمانية عشر، حينها قال لي: يا ابني إذا أردتَ أن يكون لك إرثًا خالدًا يذكرك الناس به بعد أن تفارق الحياة، فإن عليك أن تُخصص مساحات من فكرك وعقلك وقلبك من أجل الناس وخدمتهم والاستماع إليهم ومشاركتهم في آمالهم قبل آلامهم وأن تأخذ بيد كل من قصد بابك مؤمّلًا فيك أن تكون قنديلًا يعينه على المضي في مسالك الحياة الوعرة ليحقق ما يصبو إليه من نجاحات، وأستذكر الآن ما قاله رحمه الله، فأعرف السبب وراء المئات من الذين أمّوا مسجده يوم أمس للصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه الأخير، وما تفسير ذلك إلا أنه ترجمة لما قام به على أكثر من صعيد أكان ذلك في خدمة العرش الهاشمي والدولة الأردنية، أو في تلبية مطالب الناس واحتياجاتهم وفق أقصى طاقات وإمكانات كانت متاحة له، وما ظننت سائلًا يمّمَ وجهته شطر منزل أبو حديثه إلا وخرج بأكثر مما كان يتوقع، ولو كان ذلك بالتهليل والترحاب وكرم الضيافة وحسن الاصغاء والوعد الحقّ بأن يتبنى قضية فلان أو فلان لدى أصحاب الشأن ولطالما نجح في مساعيه المباركة.
قبل نحو شهرين، عاد جلالة الملك عبدالله الثاني الراحل جمال الخريشه في في المركز العربي الطبي، ولاقت الزيارة أصداءً واسعة لأن تلك سُنّة حميدة كرّسها جلالته في المشهد الوطني منذ تسلم سلطاته الدستورية، تقديرًا من جلالته لدور رجالات الدولة ومنهم أبو حديثه في الإسهام برفعة الوطن وبناءه، وعبر نافذة "عمون رفيعة الشأن" تناولت بعضًا من المحطات المضيئة في حياة فقيد الوطن كان قد أفاض في ذكرها لي إبّان شرّفني بتضمين صفحات من سيرته في واحد من سلسلة كتابي "أعلام في ذاكرة الوطن" وبالمجمل فنحن أمام سيرة عطرة كان بطلها الشيخ جمال الذي شطرها بين أكثر من اتجاه كانت الغلبة فيها للصالح العام على الخاص، وإذا كانت حياته اللافتة قد توزعت بين القوات المسلحة الأردنية، ومجلسي الأعيان والنواب والوزارة، وبين الأهل والأقرباء والمواطنين من مختلف مناطق المملكة، فإن ما يميز كل ما فيها أنها كانت سيرة عطرة قوامها الأبجديات التي نشأ ومات عليها والتي كان يجسدها واقعًا في حب الوطن وصدق الانتماء إليه الذي يتطلب من الإنسان بذل أقصى ما لديه وتوظيف خبراته وطاقاته في سبيل النهوض وتطوير الموقع الذي يشغله باعتباره تكليفًا وليس تشريفًا، وفي ذلك كان السر الكامن وراء ما تمكن أبو حديثه من إضافات على مكتسبات الوطن في مسيرته التنموية الشاملة والمستدامة.
ودّع الناس من مختلف مواقعهم الرسمية والشعبية والاجتماعية والحزبية، الراحل الشيخ جمال حديثه الخريشه وكان الوداع مهيبًا عرفانًا لمكانة الرجل الذي شغل مساحات واسعة من الحياة ظل فيها الرجل النزيه المستقيم، والتقي النقي الورع، الذي لم يقرب السحت ولم يخلط الخاص بالعام إعمالًا لقناعاته بأن خير ما يتركه المرء وراءه هو السمعة والمكانة، وإذا كان الموت حقًّا فإن البقاء من نصيب الكبار أمثال أبو حديثه يظل حاضرًا فينا ومعنا ما حيينا بتلك الأخلاق التي تميز فيها قولًا ومسلكًا وفعلًا طيّبًا مباركًا.