صناعة الصكوك الإسلامية عند حافة التحوّل،،، والتحديات الإستراتيجية تتراكم.
د. محمد فخري صويلح
22-11-2025 10:58 PM
شهدت سوق الصكوك الإسلامية العالمية توسعاً استثنائياً في عام 2025، إذ تشير التقارير العالمية الصادرة إلى أن إجمالي الإصدارات السنوية للصكوك يقترب من حاجز التريليون دولار، وهو أعلى مستوى تاريخي تسجّله الصناعة منذ تأسيسها قبل أكثر من عقدين،،، ويعكس هذا النمو الكبير اتساع الاعتماد على أدوات التمويل الإسلامي من قبل الحكومات، والشركات الكبرى، والمؤسسات المالية الراغبة في تنويع مصادر التمويل والاقتراب من الطلب العالمي المتنامي على أدوات الاستثمار المتوافقة مع الشريعة الإسلامية.
غير أنّ التوسع في حجم الإصدارات وإن كان مبهراً للعديد من المتابعين، إلا أنه لا يخفي وجود تحديات بنيوية قد تُهدد كينونة واستدامة هذا القطاع الحيوي إذا لم تُعالَج بصورة جذرية ومنهجية وبشفافية منصفة وقراءة حازمة صادقة، وبالأخص في الجوانب الشرعية والقانونية والضمانات المرتبطة بملكية الأصول حتى لا نجد أنفسنا في لحظة حرجة أمام فقاعة مالية جديدة أساسها صكوك التمويل الإسلامي،، فالواقع يُظهر أن الصناعة، بالرغم من نُضجها الظاهري، إلا أنها ما تزال عند مفترق طرق يتطلّب مراجعة جادة دون تأخر للمعايير الشرعية، وتعزيز الإطر القانونية، وتوحيد قواعد الممارسة والتنفيذ.
معيار 2003،،، إطار قديم لصناعة حديثة وسريعة النمو والتوسع.
أحد أبرز الإشكاليات التي تواجه صناعة الصكوك اعتمادها على المعيار الشرعي الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI) عام 2003 بشأن صكوك الاستثمار.
وعلى الرغم من أن هذا المعيار مثل ثورة في المعرفة والممارسة حين صدوره، إلا أنه لم يعد مواكباً للتطورات الهائلة التي شهدتها الصناعة، خاصة مع تطور الهياكل المالية، وتعقد أدوات الضمان، وابتكار صيغ تجمع بين الصيغ الشرعية الهجينة المركبة.
وخلال السنوات الأخيرة، عملت لجان فقهية وفنية متخصصة على إعداد مسودة معيار شرعي جديد والمعروف باسم “مسودة معيار الصكوك”، وكان من المتوقع أن يعالج الفجوات الكبيرة في النسخة الحالية، إلا أن الملاحظات الجوهرية على المسودة الجديدة – سواء من الهيئات الرقابية والشرعية أو من المؤسسات المصدّرة – أدت إلى تعطّل جهود الإصدار حتى اليوم،،، وبذلك بقيت الأسواق تعمل بمعيار قديم لم يعد قادرًا على استيعاب التعقيدات المتزايدة في الصناعة.
إشكالات جوهرية في التطبيق والممارسة.
وبرغم الالتزام بالهياكل المالية المتعارف عليها، ما زالت تطبيقات الصكوك تواجه ملاحظات شرعية جوهرية تتعلق بمدى تحقق الملكية الحقيقية للأصول،،، ففي العديد من الإصدارات، تعامل الصكوك بطريقة أقرب إلى السندات التقليدية من حيث العائد الثابت، وإدارة المخاطر، وضمانات السداد، ما يثير تساؤلات فقهية حول ما إذا كان المنتج يمثّل ملكية حقيقية في أصول أو منافع، أم أنه مجرد إعادة توصيف شرعي لمنتج تقليدي.
هذا الخلل الشرعي التقني يثير أزمة شرعية وأخلاقية حول مصداقية الالتزام الشرعي لهذه الصكوك مما ينعكس مباشرة على ثقة المستثمرين، وعلى قدرة الهيئات الشرعية للبنوك والجهات التنظيمية على الدفاع عن سلامة الهياكل أمام جهات التقاضي عند حدوث نزاعات أو تعثرات.
تعذر نقل الملكية وغياب الضمانات،،، مصدر رئيسي للمخاطر.
تعاني كثير من إصدارات الصكوك من عدم نقل ملكية الأصول المصكّكة إلى حملة الصكوك بصورة قانونية كاملة الآثار والهوية.
ففي كثير من الأحيان، تبقى الأصول ملكاً للمُصدر ولا تنتقل إلى الشركة ذات الغرض الخاصSPV بالشكل المطلوب، أو تكون الأصول نفسها غير قابلة للنقل، أو تُقدَّم ضمانات شكلية لا ترتقي إلى مستوى حماية حملة الصكوك في حال التعثر.
هذا الوضع يخلق حالة من عدم اليقين وارتفاع مستويات المخاطرة، ويجعل الكثير من الصكوك أقرب إلى أدوات قائمة على الأصول Asset-based لا مدعومة بالأصول Asset-backed ، وعند حدوث حالة من التعثر، يجد المستثمرون أنفسهم أمام أدوات تمويل بلا حماية حقيقية، ما يقلل من جاذبية السوق على المدى الطويل.
الإطار القانوني لفض النزاعات،،، إشكالية مستمرة.
والإشكالية الأكثر تعقيداً في الصناعة ترتبط بآلية فض النزاعات،،، فعلى الرغم من أنّ الصكوك منتجات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، إلا أن العديد من إصداراتها يصار لعرضه على القانون البريطاني عند الرجوع للتحكيم أو التقاضي، ما ينتج تناقضاً جوهرياً بين المرجعية الشرعية والالتزام القانوني.
ويُعد النزاع حول صكوك شركة دانة غاز عام 2017 المثال الأكثر شهرة؛ حيث كشفت القضية عن عدم قدرة القانون البريطاني على التعامل مع الأسس الشرعية لعقود الصكوك، ولا على تفسير العلاقات القانونية بين حملة الصكوك والمصدر وفق مبادئ الشريعة الإسلامية،،، وقد نتج عن ذلك حالة من الارتباك في السوق العالمية، مما دفع العديد من الهيئات الرقابية إلى المطالبة بأن يُعاد النظر في الإطار القانوني للصكوك باتجاه أنظمة قانونية تستوعب فقه المعاملات المالية الإسلامية.
هل تقود التوسعات السريعة إلى فقاعة صكوك؟
مع اقتراب إجمالي الصكوك المصدرة لحاجز التريليون دولار، يزداد القلق من احتمال تشكّل فقاعة مالية مشابهة لما حدث في بعض أسواق الديون التقليدية.
فإذا اجتمعت ثلاثة عوامل متمثلة في ضعف الضمانات، وعدم نقل الملكية، وهشاشة الإطار القانوني لفض النزاعات،، فقد يتكوّن مزيج مقلق يؤدي إلى أزمة ثقة واسعة في سوق التمويل الإسلامي، ويضرّ بسمعة الصناعة التي نجحت لسنوات في تقديم نفسها كبديل أكثر استقراراً وأخلاقية من أدوات الدين التقليدية.
نحو تحوّل جذري،،، لا تجميل شكلي
ولأجل حماية الصناعة وضمان نموها المستقبلي، تحتاج سوق الصكوك الإسلامية إلى تحوّل هيكلي يشمل سداسية إعادة تنظيم وضبط صناعة الصكوك، والتي تتمثل بتحديث معيار AAOIFI بصورة جذرية وملزِمة، وتأكيد نقل الملكية بشكل كامل إلى حملة الصكوك عبر SPV حقيقية مستقلة، وتقوية الضمانات، وربطها بأصول حقيقية لا شكلية، وتبنّي أنظمة قانونية وطنية أكثر قدرة على استيعاب التمويل الإسلامي، ورفع مستويات الإفصاح والتقارير الدورية للمستثمرين، وتوحيد النماذج الشرعية بقدر أكبر لمنع تضارب الفتاوى.
وعلى رواد صناعة التمويل والصكوك الإسلامية الإدراك الجاد أن الإصدار الكمي الكبير لا يعالج مشكلة نوعية الهيكل والأطر القانونية،، وعليه،، فإن سوق الصكوك أمام فرصة ذهبية للتحول الإيجابي،،، أو الوقوع – لا قدر الله - في أزمة يمكن تجنبها إذا اتخذت الصناعة خطوات جادة وفورية في المعالجة والتصويب.