قلم الرصاص .. حين تكشف أبسط الأشياء أعقد الأسئلة الاقتصادية والأخلاقية
أ. د. هاني الضمور
23-11-2025 12:39 AM
في عالم يزداد تعقيداً وترابطاً يوماً بعد يوم، تبدو أبسط الأشياء مثل قلم الرصاص مدخلاً لفهم كيفية تفاعل البشر عبر قارات وثقافات ومهن متعددة دون أن يتقابلوا أو يتشاركوا لغة واحدة. هذا المنتج الصغير يختزل في داخله قصة سلسلة توريد عالمية تمتد من الغابات ومناجم الغرافيت إلى المصانع والموانئ وشركات الشحن، ثم إلى رفوف المتاجر، في رحلة يشترك فيها آلاف البشر الذين لا يجمعهم رابط مباشر سوى حاجة كل واحد منهم إلى أداء دوره الصغير في منظومة اقتصادية كبرى. ورغم وضوح العناصر الظاهرة في هذه السلسلة، إلا أنّ هناك عنصراً خفياً يبدو غائباً عن السرد المباشر، لكنه من الناحية الاقتصادية والفكرية يمثل جوهر الأمر: آلية التنسيق غير المرئي التي تنظّم جهود البشر دون تخطيط مركزي، والتي تتجسد في المعرفة الموزعة، وآلية الأسعار، والثقة المؤسسية. هذه العناصر تشكل ما وصفه الاقتصاديون بالنظام التلقائي، حيث تتجمع قرارات الأفراد في شبكة واسعة من المبادلات التي تنتهي بإنتاج سلعة واحدة لا يعرف أحد تفاصيلها الكاملة.
غير أن النظر من زاوية اقتصادية بحتة لا يكفي. فعلى الرغم من أنّ الأسواق الحرة أثبتت قدرتها الكبيرة على تحقيق الكفاءة والابتكار عبر التخصص والمنافسة والتجارة، إلا أنها تظل ناقصة من منظور حضاري حين تُترك وحدها بلا ضوابط. وهنا يبرز المنظور الإسلامي الذي يضيف بعداً أخلاقياً وإنسانياً إلى العملية الإنتاجية، ويكشف «الشيء المفقود» في السلسلة الحديثة: المقصد الأخلاقي الذي يضبط حركة السوق ويمنع انحرافه. فالإسلام لا يكتفي بدراسة السوق باعتباره منظومة عروض وطلبات، بل يربطه بمفهوم الأمانة في العمل، وحرمة الغش، ووجوب العدل، وصيانة حقوق العامل والمستهلك، والالتزام بالعقود، ومنع الاحتكار، وتقديم النفع العام على الربح المجرد. هذه المبادئ ليست تعليمات جانبية وإنما مكوّن أصيل لاقتصاد يعمل بكفاءة دون أن يفقد روحه الإنسانية.
ومن هنا تتقاطع السلسلة الاقتصادية المعقدة مع فلسفة إسلامية ترى في الإنتاج عملاً عمرانياً قبل أن يكون تجارياً، وفي التعاون العالمي رحمة من سنن الله في خلقه، وفي التبادل الحر مساحة لازدهار الإنسان بشرط أن تحكمه قيم تضمن ألا يتحول إلى ساحة استغلال. فالقلم الذي يبدأ رحلته من جذع شجرة في غابة بعيدة لا يكتمل إلا بيد عامل ينقله ويد فني يصنعه ويد تاجر يسوّقه ويد طالب يستخدمه؛ وكل يد من هذه الأيدي مطالبة وفق الرؤية الإسلامية أن تتحرك بنية صالحة وبمسؤولية أخلاقية، ليندمج الاقتصاد مع العبادة دون تكلف.
إنّ السؤال عن كيفية زيادة الإنتاجية في عالم تنافسي حر لا يجد إجابته الكاملة في التقنيات والأتمتة وتحسين خطوط الإنتاج فحسب، بل في توازن دقيق بين الحرية الاقتصادية والضوابط الأخلاقية. فالتكنولوجيا تعزّز الكفاءة، والمنافسة تحرك الابتكار، والتجارة تفتح الأبواب، لكن القيم هي التي تمنع السوق من الانحراف إلى الاحتكار، وهي التي تحول دون سحق الضعفاء تحت ضغط الأسعار، وهي التي تمنح سلسلة التوريد بعداً إنسانياً يتجاوز أرقام التكلفة والربحية.
لقد أثبت التاريخ أن أي منظومة اقتصادية تُبنى على الكفاءة وحدها سرعان ما تصطدم بحدودها الأخلاقية، بينما المنظومات المقيدة بإفراط تفقد قدرتها على الابتكار والحركة. ولذلك تأتي الرؤية الإسلامية كجسر بين العالمين، حيث لا تُلغى آلية السوق، ولا يُصادر الربح، ولا تُكره المؤسسات على نمط واحد من الإنتاج، بل يُضاف إلى كل ذلك ميزان قيمي يجعل النشاط الاقتصادي جزءاً من رسالة الإنسان في إعمار الأرض. وهكذا، يصبح «الشيء المفقود» في سلسلة إنتاج القلم ليس مادة أو آلة أو عاملاً، بل منظومة قيمية تُعيد الاعتبار للإنسان داخل شبكة الاقتصاد العالمي، وتجمع بين الكفاءة والعدالة، وبين الحرية والمسؤولية، وبين التخصص المهني والمقصد الأخلاقي.
إن فهم هذا التكامل بين الاقتصاد المادي والبعد القيمي ليس مجرد تنظير فلسفي، بل هو ضرورة في عالم يواجه تحديات تتعلق بعدالة توزيع الثروة، واستدامة الموارد، واحترام الإنسان داخل عمليات الإنتاج الضخمة. وفي عصر يتقدم فيه العلم بسرعة، ويزداد فيه الاعتماد المتبادل بين الشعوب، تصبح الحاجة إلى هذا البعد الأخلاقي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالسوق لا يكفيه أن يكون ذكياً؛ يجب أن يكون عادلاً أيضاً. والقلم الرصاص، رغم بساطته، يذكّرنا بأن خلف كل منتج قصة إنسانية لا تُرى إلا حين ننظر إلى ما هو أبعد من الآلة والمصنع، إلى القيم التي تمنح العمل الاقتصادي روحه ومعناه.
الدستور