الديموقراطية… دكتاتورية الشعوب!
فيصل سلايطة
02-12-2025 07:30 AM
في الوعي الجمعي الحديث، تُطرَح الديموقراطية بوصفها النظام الأمثل، الوجه المشرق للحكم الرشيد، وصوت الإنسان الحر. غير أنّ هذا المبدأ الذي يبدو بديهيًا في فضائله، قد يتحوّل — paradoxically — إلى نقمة حين يوضع في يد شعوب لم تكتمل أدوات الوعي لديها، أو حين تُختَطف خياراتها عبر التعبئة الدينية أو الأيديولوجية أو العاطفية. عندها، تصبح الديموقراطية في ظاهرها حُكم الشعب، وفي باطنها دكتاتورية الأغلبية أو دكتاتورية الجهل.
" حين يتحوّل الصندوق إلى سلاح"
العملية الديموقراطية لا تخلق وعيًا من عدم؛ هي فقط تعكسه. وحين يكون الوعي الجماعي هشًا أو ملوّثًا بالدعاية أو العصبية، يصبح صندوق الاقتراع أداة خطرة، لا تختلف كثيرًا عن العصا في يد طفل. في مجتمعات تفتقر للتعليم النقدي، تصبح الوعود الشعبوية أقوى من البرامج، والخطابات الدينية أقوى من القوانين، والقبلية والطائفية أقوى من العقل. عند هذه النقطة، يخرج من رحم الديموقراطية ما هو نقيض لها: حكم منتخب لكنه يعتاش على خوف الجمهور وجهله، لا على قدرته على بناء مستقبل.
هكذا تصبح الديموقراطية شرعية تُمنح لمن لا يستحق، فقط لأن الجماهير اندفعت خلف خطيب مفوّه، أو شيخ يملك خطابًا تعبويًا، أو زعيم يعد بالفردوس الأرضي والسماوي. الأغلبية ليست دائماً على حق واحدة من أكبر أخطاء الفهم الشعبي أنّ “صوت الأغلبية” يعني “الحقيقة”. التاريخ يكذب هذه القناعة: الشعوب هلّلت لخطاب الكراهية قبل أن تدفع ثمنه.
الشعوب صوّتت لقادة جرّوها إلى الحروب. الشعوب آمنت بأساطير سياسية واقتصادية لأنها تخاطب رغباتها، لا عقلها. في الديموقراطية غير الناضجة، يصبح الحق مرتبطًا بما تهتف به الحشود، لا بما هو منطقي أو عادل. وهنا تظهر أخطر صور الدكتاتورية: دكتاتورية الأغلبية الجاهلة، التي تفرض رؤيتها القاصرة على كل من هو أكثر وعيًا وتقدمًا.
حين يكون النظام الديكتاتوري أكثر وعيًا من المجتمع قد يبدو هذا الطرح صادمًا، لكنه واقعي في دول ما زالت في بدايات تشكّلها السياسي والثقافي. ففي مجتمع يفتقر للحدّ الأدنى من التعليم المستقل والوعي المدني، قد يكون النظام الديكتاتوري — رغم عيوبه — أكثر قدرة على ضبط الانفلات، والحفاظ على استقرار لم تنضج الشعوب بعد لإدارته.
لا يعود ذلك إلى فضيلة في الدكتاتورية بقدر ما هو قصور في المجتمع: شعوب تعيش على ردود الفعل لا المبادرة. مجتمعات تؤمن بالتقديس أكثر من التفكير. فئات تنجرّ خلف الرموز لا خلف المشاريع.
وحين يغيب الوعي ويفشل المجتمع في إنتاج طبقة سياسية حقيقية، يصبح “الانتخاب” مجرّد لعبة تُدار بالعاطفة، ويغدو النظام الديكتاتوري — paradoxically — أقل ضررًا من فوضى شعب لم يتعلم بعد كيف يتعامل مع الحرية.
الديموقراطية مشروع حضاري ، وليس زرًا نضغطه أغلب النماذج الديموقراطية الناجحة لم تبنَ بين ليلة وضحاها. تطلّبت قرونًا من الصدام الفكري، وتحرير العقل، وفصل الدين عن السلطة، وبناء مؤسسات قوية، وتعليم قادر على حماية الفرد من خطاب الجماعة. الديموقراطية ليست الانتخابات. الديموقراطية منظومة: ثقافة نقدية إعلام حر تعليم يقاوم التلقين مجتمع مدني يراقب دولة قانون تحمي الفرد من “عنف الجماعة” بدون هذه الأعمدة، تصبح الديموقراطية قشرة جميلة تخفي تحتها وحشًا اسمه “الشعب المعبّأ”.
الحرية لا تُعطى لمن لا يعرف قيمتها المفارقة الكبرى أن الديموقراطية، إن لم تُبْنَ على وعي، تعطي السلطة لمن يعمل على هدمها. تُنتخب الأحزاب المتشددة باسم الدين فتغلق باب النقد.
تصل القوى الشعبوية فتسحق الأقليات. تسود العصبية فتضيع الدولة. الحرية مشروع ثقافي قبل أن تكون آلية سياسية. والشعب غير الواعي قد يختار قيوده بنفسه، معتقدًا أنه يمارس الحرية.
الديموقراطية قيمة عظيمة، لكنها ليست مقدّسة. وقد تتحوّل — في يد الجاهلين أو المعبّئين — إلى نسخة جديدة من الدكتاتورية، أخطر من الأنظمة المستبدة، لأنها تأتي بشرعية صندوق لا بشرعية عقل. الحل ليس في الهروب من الديموقراطية، بل في بناء الإنسان القادر عليها. فالحرية لا تُمنح… بل تُستحق.