حين تتحوّل المعرفة إلى منتج رقمي… هل يبقى للعقل مكان في الجامعة؟
أ. د. هاني الضمور
02-12-2025 03:33 PM
في السنوات الأخيرة، اندفع العالم نحو رقمنة التعليم بوتيرة غير مسبوقة، حتى باتت الجامعات تعيد بناء نفسها حول شاشات ومنصات وخوارزميات. وبينما يرى البعض في هذا التحول خطوة طبيعية نحو المستقبل، يخشى آخرون أن يكون مقدمة لولادة نموذج تعليمي جديد يختزل المعرفة في «محتوى جاهز» ويحوّل التفكير الحر إلى هامش يصعب الدفاع عنه.
الرقمنة، في صورتها الإيجابية، فتحت أبوابًا واسعة أمام الملايين. لم يعد الطالب بحاجة إلى مقعد في قاعة دراسية أو إلى أستاذ يلقّن الدرس مباشرة؛ أصبح الوصول إلى المحاضرات والكتب والموارد الرقمية ممكنًا في أي وقت، وبجودة كانت يومًا ما حكرًا على جامعات النخبة. هذه المرونة وسّعت دائرة التعلم، وسمحت للجامعات بتقديم تجارب أكثر تنوعًا وابتكارًا، وجعلت البحث العلمي أسرع وأكثر شمولاً.
غير أن الوجه الآخر لهذه الثورة يثير الكثير من التساؤلات. فالاعتماد المتزايد على المحتوى الرقمي الموحّد قد يحوّل التعليم إلى «منتج معلب»، يُقدّم بالطريقة نفسها لملايين المتعلمين حول العالم، دون مراعاة للسياق الفكري أو الثقافي أو الفلسفي لكل مجتمع. ومع صعود أنظمة التقييم الآلي، يتراجع دور التفكير النقدي مقابل مهارات الاستجابة السريعة، ويصبح الطالب مجرد «مستهلك» للمعلومة لا شريكًا في إنتاجها. أما الأساتذة، فيتقلص حضورهم شيئًا فشيئًا لصالح منصات تحدد ما يجب تدريسه وكيف.
ووسط هذا المشهد، تبدو حرية التفكير –التي تشكل جوهر التعليم العالي منذ نشأة الجامعات– في موقع هش. فالجامعة لم تكن يومًا مجرد مكان لتجميع المعلومات، بل فضاء لصناعة الأسئلة، ومختبرًا لتشكيل الوعي، ومساحة للنقاش الذي يولد منه الإبداع. وإذا أصبح المحتوى الرقمي نهائيًا ومغلقًا وغير قابل للنقد، فإن الحرية الفكرية ستجد نفسها محاصرة بين قوالب جاهزة لا تسمح بالمراجعة أو الاختلاف.
ومع ذلك، فإن المخاطر لا تعني بالضرورة نهاية الدور الفكري للجامعة. فالتكنولوجيا تستطيع أن تكون حليفًا قويًا إذا استُخدمت لتعميق التفكير لا لتقليصه؛ لتوسيع النقاش لا لتوجيهه؛ لتمكين الأستاذ والطالب معًا بدل أن تحلّ محلّهما. والسؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت الرقمنة ستبقى، بل كيف ستبقى، وبأي شكل ستعيد صياغة الفكرة الأساسية للتعلم.
المعادلة معقدة: العالم بحاجة إلى تعليم يواكب السرعة الرقمية ولا ينفصل عن جذوره الإنسانية. وإذا استطاعت الجامعات تحقيق هذا التوازن الدقيق، فستظل فضاءً حيًا للأفكار. أما إذا انحازت كليًا إلى «التعليم المعلّب»، فقد نخسر أهم ما يميز الإنسان عن الماكينة: القدرة على التساؤل، وعلى التفكير بما يتجاوز الجواب الجاهز.
هل يستطيع التعليم العالي أن يحافظ على هذه الروح؟ أم أن عصر الرقمنة سيكتب فصلًا جديدًا يقف فيه العقل على الهامش؟ إنه سؤال ليس للجامعات وحدها، بل لمستقبل المجتمع بأكمله.