facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الرجل الذي كُتب اسمه بالحقيقة لا بالسياسة


أ. د. هاني الضمور
03-12-2025 11:17 AM

في حياة الأوطان لحظات تتجمد عندها الذاكرة، لا لأنها فارقة فحسب، بل لأنها تنتج رجالاً يتجاوزون حدود الزمان، فيصبح حضورهم أكبر من أعمارهم، وتأثيرهم أعمق من أي منصب شغلوه. لهذا يبدو اسم وصفي التل أشبه بوشمٍ غائر في صدر الأردن، علامة لا تختفي مهما تتابعت الحكومات وتغيّرت الظروف، لأنه لم يكن مجرد رئيس وزراء، بل كان مشروعاً كاملاً لرؤية دولة أراد لها أن تقوم على الصلابة والانضباط والقدرة على حماية نفسها من الداخل قبل الخارج.

ولد وصفي التل وفي داخله شعور مبكر بأن الدولة ليست عباءة تُرتدى، بل مسؤولية تُحمل. نشأ في بيت يشبه الوطن في تعدد أدواره؛ فوالده الشاعر مصطفى وهبي التل «عرار» كان واحداً من أكثر الأصوات تحرراً وجموحاً في الحياة الثقافية الأردنية، وما بين صرامة الأب السياسية وتمرده الشعري تربى وصفي على مزيج فريد من القسوة الأخلاقية والحنين العميق للأرض. لهذا لم يكن غريباً أن يمتلك تلك النظرة الساخطة على كل تقصير، وذلك الانحياز التلقائي إلى الفلاح البسيط والجندي المتعب والعامل الذي يبتلع يومه في سبيل لقمة خبز.

في مسيرته السياسية والإدارية، بدا وصفي التل وكأنه يسبق زمنه بخطوة. كان يؤمن بأن الدولة لا تُدار بالمجاملات، ولا تُبنى بالترضيات، ولا تستقيم إن انحنت في لحظة ضعف. كان يرى أن الهيبة ليست ترفاً، بل شرطاً لوجود دولة قادرة على صون قرارها. ومنذ دخوله ميدان العمل العام، وهي فلسفة لا تكف عن الظهور في خطابه ولغته وطريقة إدارته. كان قليل الكلام كثير الفعل، حادّ العبارة لكنه واضح، شديداً على نفسه قبل أن يكون شديداً على الآخرين، ولذلك كان حضوره يثير الإعجاب حتى عند من اختلفوا معه.

في ذاكرة الأردنيين صور كثيرة له، لكن أكثرها رسوخاً مشاهد لا يبدو فيها رجل الدولة التقليدي. يقف عند مداخل القرى، يتفقد مشاريع صغيرة لا يلتفت إليها غيره، يصرّ على متابعة تفاصيل يومية قد يراها البعض تافهة، لكنه كان يدرك أنها الجزء الذي تُبنى عليه كل الأجزاء. كان يؤمن بأن البناء الحقيقي يبدأ من الأساس لا من القمة، وأن الدولة التي لا تشعر بوجع أصغر مواطنيها، لن تتمكن من حمل عبء الأمن ولا عبء المستقبل. لذلك، حتى حين ارتدى بدلة رسمية، ظلّ يبدو كرجل يحمل حفنة من تراب في جيبه، وكأن رائحة الأرض تسير معه حيثما ذهب.

ومع أن وصفي التل ارتبط في الذاكرة العامة ببعض اللحظات الصعبة في تاريخ الأردن، خصوصاً تلك التي شهدت اشتباكاً سياسياً وعسكرياً خطيراً، إلا أن قراءة تلك المرحلة من زاوية واحدة تظلمه. لقد كان الرجل أمام امتحان دولة على حافة الانهيار، وكان يعتقد أن مهمته الأولى حماية كيانها مهما كان الثمن. لم يكن يسعى إلى صدام، لكنه كان يرفض أن يرى الدولة تتحول إلى مظلة فوضى أو ساحة نفوذ، وكان يرى أن الشرعية لا تُنازع، وأن السلاح يجب أن يبقى بيد مؤسسة واحدة، وأن هيبة القانون إذا سقطت مرة فلن تعود بسهولة. وبرغم كل ما حمله موقفه من جدل، فإن كثيراً من المنصفين اعترفوا بأن صلابته في تلك اللحظة ربما كانت السدّ الأخير بين بقاء الدولة أو تفتتها.

ولأن خطورة المواقف تُقاس أحياناً بثمنها، جاء اغتيال وصفي التل ليحوّله من رجل مرحلة إلى رمز وطن. لم يسقط في ساحة معركة ولا في دهاليز مؤامرة داخلية، بل سقط في قاهرة العرب وهو يحمل هموم بلاده ويبحث لها عن مساحة تنفس. كان اغتياله صدمة، ليس لأنه كان رئيس حكومة فقط، بل لأنه كان يمثل فكرة، والفكرة عندما تُغتال لا تموت، بل تتجذر. لذلك بقي وصفي التل حياً في الوجدان الشعبي، وامتد حضوره أبعد من حدود السياسة إلى حدود الأخلاق العامة. أصبح معياراً يقاس عليه المسؤولون، وصار اسمه مرادفاً للنقاء وشرف الوظيفة والانحياز للمصلحة العليا دون حسابات ضيقة.

ورغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيله، فإن حضوره لا يزال يتجدد في لحظات يحتاج فيها الوطن إلى استعادة صوته الأول. يظهر في كلام الناس حين يشتد النقاش حول الفساد أو العدالة أو هيبة الدولة. يظهر في وجوه الجنود حين يتحدثون عن معنى الانتماء. يظهر في آمال الشباب الذين يبحثون عن نموذج يؤمن بفكرة الوطن باعتبارها مشروعاً أخلاقياً قبل أن تكون مشروعاً سياسياً. لقد تحول وصفي التل إلى ذاكرة متحركة، إلى رمز لا يذبل، إلى وصلة ثابتة في صدر الوطن، تلك الندبة التي لا تُشفى لأنها جزء من الهوية، وجزء من السردية التي يُعاد إليها كلما ضاعت البوصلة.

قد يختلف الناس حول سياسات الرجل، وقد تتباين قراءاتهم لمسيرته، لكن الإجماع ينعقد على شيء واحد: أنه كان صادقاً مع نفسه ومع وطنه. كان يحمل قلباً لا يعرف المساومة، ورؤية ترى أبعد من دورة حكومة وأعمق من حسابات السياسة اليومية. كان يؤمن بأن الدولة إن لم تُبنَ على العمل والاحترام والقانون، فلن تبنى أبداً. هذا الإيمان هو ما أبقى اسمه حاضراً، وهو ما جعل سيرته تبدو وكأنها درس مفتوح للأجيال. ومن بين كل ما قيل ويقال عنه، يبقى في النهاية حقيقة واحدة تشبه خاتمة مفتوحة: أن وصفي التل لم يكن رجلاً مرّ في تاريخ الأردن، بل كان تاريخاً مرّ في رجل، وما زالت البلاد تبحث بين خطواتها عما يشبه خطوته.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :