الجاهة .. والتقاليد المستعارة
سامح المحاريق
04-12-2025 12:21 AM
القراءة المتعمقة للسير النبوية المتعددة، وكتب التاريخ والتراث لا تفضي إلى شيء يشبه الطقس الاجتماعي الذي يسمى في الأردن الجاهة، وهو طقس تختلف أشكاله بين العراق والأردن وسوريا وفلسطين في المجتمعات ذات البعد العشائري، ولكن مجتمعات عشائرية عربية أخرى ليس لديها هذه الصورة الطقوسية، نتحدث عن صعيد مصر وليبيا والخليج، حيث يوجد تدخل عائلي واسع من غير أن يكون مناسبة مستقلة ومن غير مفردات المباهاة القائمة والتي وصلت إلى التنافس على أسماء الممثلين للأسر في الجاهة والمدعوين والموقع بما أصبح يشكل ثقلًا واضحًا لمن يدخلون في تجربة الزواج.
لماذا هذه المنطقة؟
لم يكن العثمانيون في القرن التاسع عشر يهتمون كثيرًا بإحداث أي نوع من النهضة أو التنمية في الأقاليم العربية، وانحصر تواجدهم وما يمكن وصفه بالحد الأدنى من الخدمات التي يقدمونها في بعض المدن الكبرى، بل ووصلت الأمور إلى إعادة هندسة الواقع الاجتماعي، فهم يستثمرون في المرفأ الصغير في بيروت ليصبح عاصمة ولاية كبيرة على حساب طرابلس وصيدا الأعرق والأكثر أهمية والأقل اتصالًا عضويًا مع بقية الشام.
كان الأردن المنطقة الأكثر تضررًا من هذه السياسة أو اللا – سياسة، من عجز الدولة العثمانية وانحلالها أمام الأزمات، فالمراكز الأمنية العثمانية كانت تعمل أثناء فترة الحج بينما تترك المنطقة لتنافس قبلي ولسطوة الإقطاعيين بقية فترات السنة، وبالتالي ظهرت أدوات تواصل وتسيير ذاتي للمجتمعات، وتعززت لتظهر نسخة من القوانين العرفية المحمية بالتفاهم الواسع وتصبح منظومة متكاملة يستثمر الجميع في علاقاتها التبادلية لأنها توفر لهم الحماية والاستقرار في الحدود الدنيا.
يفسر ذلك بقاء الأردن منطقة قلقة وغاضبة من الحكم العثماني شهدت احتجاجات متعددة وصلت إلى ذروتها في الكرك 1910، ولأن الأردن بلد متجانس في تركيبته السكانية على المستوى الديني والعرقي واللغوي قياسًا ببقية الأقاليم العربية، بقيت هذه التدابير قائمة وفاعلة لسنوات.
عندما تأسست الدولة وجدت أن هذه الطقوس من خصوصيات المجتمع، ولم تجد إشكالية كبيرة في محاورتها لأنها طقوس شكلية وليست ذات أثر سلبي في المحصلة العامة، ومع ذلك خفتت في مراحل من المد الحداثي والحضري، لم تنته تمامًا ولكنها لم تأخذ الصورة المبهرجة التي عادت لتعتنقها في العقدين الأخيرين.
لم يخضع الأردن إلى هندسة اجتماعية سلطوية كالتي حدثت في العراق والجزائر في الستينيات والسبعينيات، ولم يكن أي من ملوك الأردن يتحدث عن الطقوس الاجتماعية أو ينتقدها أو يوجه بتغييرها، طالما أنها من طرائق الحياة التي لا تتعارض مع القانون ولا تؤثر على السلم المجتمعي، ولكن تحول بعض العادات إلى أدوات مبطنة للاستعراض الطبقي ولإحداث تراتبية مجتمعية يستدعي التوقف مطولًا لتدارسه ونقده ومحاولة تغييره تجاه أنماط أكثر تلاؤمًا مع الواقع الجديد وتحدياته، ومنها ارتفاع تكلفة الزواج والأرقام التي صدرت عن ارتفاع معدلات العزوف عنه.
عندما تحدث وزير الداخلية في الأمر قبل أسابيع خرجت بعض الفعاليات الاجتماعية لتوجه له نقدًا شديدًا، وهي تدافع عن موقعها داخل ترتيبات معينة تضطر الكثيرين لاستدعائها، ومع أنه لا يوجد أي سند قانوني لدعوة الوزير فالمحصلة أن الحوار لم يكن صحيًا، خاصة من طرف الذين أصروا على تطويق أحد الطقوس وتسويره بمفهوم العادات والتقاليد.
التقاليد التي يمكن أن يعتز بها الأردني هي في احترام كبار السن والوقوف ليتاح لهم الجلوس، وفي عادات الضيافة العربية التي تقتضي ألا يشارك المضيف في الطعام إلا شكليًا بعد أن يتأكد من أن يشبع ضيفه، وكم أحترم عادة لاحظتها وهي عدم استخدام المصعد من بعض الرجال في حال استخدامه من الجارة، وتفضيل الانتظار إلى أن تصعد أو تهبط لوجهتها، وهي تقاليد ذات طابع عربي أوسع تأخذ في الأردن بعدًا تكوينيًا لمركزية البعد العشائري في الأردن.
في المقابل، الجاهة التي توضع من أجل أغراض تفاخرية فهي تقليد طارئ .
مرجعيتنا الدينية لا تتطلب ما يحدث كله، ولا يجب أن نركن لمقولات بعض صناع التقاليد الذي يبحثون عن دور، أو أصحاب التجارة التي ارتبطت بالجاهات والمناسبات، ولكن اليوم أين هي القيادات المجتمعية التي يمكن أن تقود المثل وأن تطلب أن تجري الأمور ببساطة وبتكلفة معقولة وأن يستثمر ما يضيع في مظهرية الجاهة في مستقبل الأسرة أو حتى في وجه من التكافل والتراحم الاجتماعي.
"الرأي"