facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




اقتصاد الصورة وصناعة الانتباه


أ.د وفاء عوني الخضراء
06-12-2025 05:30 PM

في تحوّل لافت على مستوى العالم، قرّرت أستراليا رفع الحدّ الأدنى لسنّ استخدام منصّات التواصل الاجتماعي إلى ستة عشر عامًا. القرار لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى رصيد ضخم من الدراسات المتقدمة في علوم الأعصاب والسلوك التي تكشف تصاعد الإدمان السلوكي لدى المراهقين، وتفاقم اضطراب الانتباه، وتآكل الهوية، وارتفاع معدلات القلق والاكتئاب.

هذا التحرك يُعيد طرح السؤال الأعمق: كيف تُبنى السياسات العامة في الدول الحديثة؟ وهل يمكن أن نستمر في اتخاذ القرارات بناءً على المزاج السياسي أو التفاعل اللحظي بدلًا من المعرفة العلمية المتراكمة؟

الدول التي تُحسن التخطيط لا تُراهن على الحدس، بل على علمٍ طويل النفس؛ علمٍ يجمع بين الاقتصاد السلوكي، وعلوم النمو المعرفي، والصحة العامة، وديناميات المؤسسات، والمسوح الوطنية واسعة النطاق. هذه البنية المعرفية هي التي تحمي القرار من تقلبات الرأي العام، وتضمن رؤية مستقبلية لا تُصاغ تحت ضغط الانفعال أو سرعة اللحظة.

لقد سبقت تجارب عالمية كثيرة إلى إدماج الأدلة العلمية في السياسات التعليمية والاجتماعية. حين أدرجت بعض الدول علم النفس الإيجابي في مدارسها وجامعاتها ومؤسساتها العامة، لم يكن الهدف تجميل الخطاب، بل رفع الإنتاجية المؤسسية وتحسين بيئات العمل وتقليل كلفة الاحتراق النفسي واضطرابات السلوك. وتظهر الدراسات بأن الاستثمار في الرفاه والموارد البشرية يولّد أعظم العوائد الاقتصادية والاجتماعية، ويُعزّز الاستقرار والتنمية طويلة المدى أكثر من أي بنية تحتية أخرى.

لكن المشهد اليوم أصبح أكثر تعقيدًا. فالمسألة لم تعد مجرّد استخدام لمنصّة رقمية، بل تحوّل بنيوي في الوعي الإنساني. المنصّات لم تعد مساحات للتواصل، بل اقتصادًا للصورة وصناعة للانتباه؛ اقتصادًا يُعيد تشكيل كيفية إدراكنا لأنفسنا وللآخرين.

كل تمريرة إصبع على الشاشة تدفع المراهق إلى مرآة لا ترحم. الخوارزميات تضخّم تفاصيل الجاذبية، تُحوّل الوجوه إلى مقاييس، والأجساد إلى معايير، واليوميات العادية إلى ساحات تقييم علني. ومع الزمن تتكثّف المقارنات، ويترسّخ الشعور بالنقص، ويبدأ الوعي بالانزلاق نحو عالم بصري مصقول يُربك كيمياء الانتباه ويقضم شيئًا فشيئًا من صلابة الهوية وثقة الذات.

إنّ ما يواجهه المراهق اليوم ليس مجرّد محتوى، بل امتحان بصري مفتوح؛ ضغط متواصل يصوغ مشاعره، ويحمل جهازه العصبي إلى حالة تأهّب مزمنة. وهذه ليست انطباعات عامة، بل خلاصات منتظمة لدراسات تجريبية وطولية تتكرر نتائجها في أكثر من دولة.

هل نملك رفاهية الانتظار؟

وهل يمكن أن نترك أبناءنا في مواجهة اقتصادٍ عالميّ جديد تُدار فيه الأرباح بالانتباه، وتُصاغ فيه القيمة بالصورة، بينما نكتفي بردود فعل متأخرة؟

إلى أنّ هذه الظاهرة لا تحدث صدفة، بل تُدار ضمن ما يُعرَف بـ صناعة الانتباه؛ وهي الصناعة التي تقوم على سباقٍ شرسٍ لخطف الوقت الذهني للمستخدم، وزرع محفّزات متتابعة تُحاكي دوائر المكافأة في الدماغ. وقد أثبتت الأبحاث أنّ الاستهلاك المكثّف للمحتوى السريع والمشوَّش يُضعف الذاكرة العاملة، ويشتّت الانتباه، ويعيد تشكيل الدماغ النامي بحيث يصبح أكثر اعتمادًا على الإثارة الخارجية وأقل قدرة على الصبر والتفكير العميق.

إنّ اقتصاد المنصّات اليوم لا يقوم على الإعلانات أو المحتوى فقط، بل على تشيء الانتباه البشري وتحويله إلى سلعة قابلة للبيع، الأمر الذي يجعل حماية الأطفال والمراهقين ضرورة أخلاقية لا خيارًا إداريًّا.

وتكشف دراسات علم الأعصاب الاجتماعي أنّ غزارة الصور التي تمرّ أمام أعيننا لا يكتفي بخطف الانتباه؛ بل يعيد تشكيل الدماغ نفسه.

فالتعرّض المتواصل لوجوه رقمية مُفلترة وإشارات عاطفية مبتورة يُعطّل تدريجيًا قدرة الدماغ على ممارسة أهم مهاراته الإنسانية: التعاطف العميق. وحين يحلّ "الظهور" محلّ اللقاء الحقيقي، تفقد المناطق العصبية المسؤولة عن قراءة العواطف حضورها الحيوي، كما لو أنّها تُسحب ببطء من الحياة اليومية، وتُستبدل بسطحٍ بصريّ لا حرارة فيه.

ومع الزمن، يتراكم ما يشبه "تسمّم الوجدان": شعور خافت، باهت، يتسرّب من كثافة الصور وغياب اللمسة البشرية التي رافقت الإنسان منذ لحظة تشكّله على الأرض. وهكذا ينزلق الفرد من كائن يختبر العالم بالحواس، إلى متلقٍّ بصريّ يعيش داخل صور لا تُبادله شعورًا، ولا تنقذه من وحدته مهما اشتدت لمعانها.

إنّ الهوية لدى الشباب لم تَعُد تُصنع من عُمق التجربة: من صداقات تُختبر، وخلافات تُعالج، وفشل يُواجه، ونجاحات تُبنى بالعرق والوقت، بل من طبقات متراكمة من المحاكاة، قوالب مرئية تُعيد المنصّات صياغتها كما تشاء. لم يعد الشاب يسأل: من أنا؟ بل: كيف أبدو؟

لم يعد ينصت إلى مشاعره الحقيقية، بل إلى ما تقوله الشاشة عن تلك المشاعر. وهكذا تتحوّل الهوية من رحلة تُبنى في الحياة، إلى واجهة تُعدّل في ثوانٍ.

وتُجمع دراسات علم النفس التطوري على حقيقة جوهرية: الإنسان لم يُخلق ليعيش خلف الشاشات. تكوّن وعيُه عبر الاحتكاك المباشر، والعمل الجماعي، والانغماس في مشاهد الحياة بكل ارتباكاتها. ولذلك فإنّ الإفراط في البيئات الافتراضية لا يجمّد المهارات الاجتماعية فحسب، بل يعمل ضدّ تاريخنا التطوري نفسه؛ ليُنتج جيلًا يعرف تمامًا كيف "يظهر"، لكنه يجهل كيف "يكون".

ولأنّ الأردن يضع الإنسان في قلب مشروعه الوطني، فإنّ اللحظة الراهنة ليست مناسبةً للمتابعة من بعيد، بل نافذة ريادة يمكن أن تجعلنا الأوائل في المنطقة في حماية البنية العصبية والوجدانية لأبنائنا، وإعادة الاعتبار للتجربة الإنسانية الحقيقية على حساب الصورة والخوارزمية.

هل نترك خوارزميات صناعة الانتباه تكتب مستقبل أطفالنا، أم نكتب نحن حدود ما يليق بإنسانيتهم؟

هل نُسلّمهم لاقتصاد الصورة، أم نعيدهم إلى علاقةٍ تُقدّم الوعي والحضور والمعنى؟

إنها لحظة فاصلة: إمّا أن نصنع المستقبل… أو نترك جيلًا يُعاد تشكيله داخل شاشة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :