هذا هو المنتخب الذي نريد… وهذه هي الدولة التي نستحق
د. مثقال القرالة
07-12-2025 11:16 AM
ليس المنتخب الأردني مجرد فريق لكرة القدم ولا هو مؤسسة رسمية تُدار بالأختام والألقاب، ففي هذا المنتخب لا تجد دولة رئيس ولا معالي وزير، ولا من هذه الالقاب، ولا تصادف بوابة مكتوباً عليها “كبار الشخصيات”، بل تدخل إليه مباشرة من باب الناس، من الحارة، من المدرسة، من المسجد، من السوق، من تعب الأب ودعاء الأم، من الإسفلت الذي خدش الركب، ومن كرات القماش التي صنعت أقداماً تعرف طريق المرمى بالفطرة. المنتخب الأردني هو ابن هذا الشارع بكل تفاصيله، وهو النسخة التي تشبه الناس بلا مساحيق ولا ألقاب، لذلك حين ينتصر نشعر أن الوطن بأكمله قد سجّل هدفاً، وحين يخسر نشعر أن قلوبنا جميعاً قد سقطت في اللحظة ذاتها. ففي الطرقات والأسواق والمساجد نسمع ذات الجمل التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الوطنية اليومية: النعيمات ابن حارتي، والتعمري كان معي بالمدرسة، مرضي قابلته بالباص، علوان كان معنا بالمسجد، وهذه ليست مجرد عبارات فخر عابرة بل شهادات حيّة على أن هذا المنتخب لم يصنعه أصحاب النفوذ ولا صالونات النخبة، بل صاغته البيوت البسيطة والأحياء الشعبية والمدارس الحكومية وساحات التراب، ولذلك يحبه الناس لأنه يشبههم، ويثقون به لأنه خرج من بينهم لا من فوقهم، ولأن كل لاعب فيه يحمل سيرة شارع وعرق عائلة وحلم حي كامل يركض معه داخل الملعب.
في كأس العرب لم ولن يكن المنتخب الأردني رقماً عابراً في جدول النتائج ولا ضيف شرف في بطولة مزدحمة بالنجوم، بل دخل البطولة بعقلية المحارب وبهوية الفريق الذي يعرف ماذا يريد، يلعب بانضباط تكتيكي، وجرأة هجومية، وروح قتالية عالية، وصناعة للفرص لا تعرف التردد، فحجز لنفسه مساحة احترام واسعة بين المنتخبات العربية وأعاد رسم صورته في الوعي الكروي العربي بوصفه منتخباً لا يُستهان به ولا يقبل الدور الهامشي. فقبل هذه البطوبه كان الإنجاز الأكبر، الإنجاز الذي طال انتظاره، وتأخر كثيراً على وجدان الأردنيين، حين تحقّق التأهل التاريخي إلى كأس العالم، لتتحول الأحلام المؤجلة إلى واقع، وتُرفع الأعلام لا احتفالاً ببطولة فقط بل اعترافاً بحق مستحق وصل بالعرق لا بالمجاملات. فاليوم يقف المنتخب الأردني أمام لحظة استثنائية في تاريخه، لحظة مواجهة الكبار، حيث لا مباريات هامشية ولا أسماء عادية، بل موعد مع منتخبات الصف الأول، مع مدارس كروية صنعت تاريخ اللعبة، ومع عناوين عريضة في مقدمتها منتخب الأرجنتين، بطل العالم وأسطورة الكرة الحديثة، وهنا بالذات تتجلى روعة الحكاية الأردنية؛ منتخب خرج من الأزقة الضيقة إلى اتساع الملاعب العالمية، منتخب كان يطارد الباصات في الصباح ليتمرن في المساء، بات اليوم يطارد المجد أمام شاشات العالم كله، لا ليُصفق له فقط بل ليُحسب له ألف حساب.
هذا المنتخب لا يعرف عبارة “من طرف فلان” ولا يصعد عبر الهواتف ولا يُدار بمنطق العلاقات، بل بمنطق الاستحقاق الصافي، يصعد فيه اللاعب بالانضباط، ويبقى فيه بالجهد، ويسقط فيه بالتراخي، وتُغلق فيه أبواب الامتيازات المفتوحة على مصراعيها في غيره من المؤسسات. لذلك بات المنتخب الأردني النموذج الوحيد الذي يراه الناس عدالة خالصة في الفرص، ومساواة حقيقية في المحاسبة، وصدقًا نادراً في تمثيل الوطن، ولهذا يدافع الناس عنه كأنه واحد من أبنائهم لأنهم يعلمون أنه بالفعل واحد منهم. ومع كل فرحة يحققها المنتخب، يتسلل إلى القلب سؤال موجع: لماذا نجح المنتخب وفشلت مؤسسات كثيرة في أن تشبه الناس؟ لماذا وجدنا فيه ما لم نجده في غيره من الصدق، والانضباط، وتكافؤ الفرص، والإنجاز المبني على العمل لا على الواسطة؟ أين الحكومة التي تشبه هذا المنتخب؟ وأين مجلس النواب الذي يلعب بذات الروح القتالية دفاعاً عن مصالح الناس؟ وأين المسؤول الذي يغار على الوطن كما يغار اللاعب على القميص، ويغضب إن خسر كما يغضب المدرب حين تضيع مباراة؟
نحن لا نطلب معجزات ولا نبحث عن شعارات جوفاء، نحن نريد فقط أن تُدار الدولة بذات العقلية التي يُدار بها المنتخب: عمل لا يعرف الكسل، ومحاسبة لا تعرف المجاملة، وفرص لا تُفرّق بين ابن حي وابن لقب، لأن الأردن لا يُبنى بالخُطب، ولا يُرفع بالأسماء اللامعة، بل يُشيَّد بسواعد متعبة وضمائر حية وإرادة تشبه إرادة من يركض حتى الدقيقة الأخيرة حاملاً علم الوطن على صدره. فالمنتخب الأردني اليوم لا يلعب كرة قدم فقط، بل يقدّم درساً وطنياً كاملاً في معنى الانتماء والعدالة والاستحقاق والعمل الجماعي، ويكتب فصلاً جديداً في تاريخ هذا البلد عنوانه أن الطريق إلى القمة قد يكون شاقاً وطويلاً، لكنه ليس مستحيلاً على من يشبه الناس ويخرج من بينهم ويحملهم معه إلى الضوء.