facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بين هدير الطائرات وصمت الحكماء


د.غازي عبدالمجيد الرقيبات
08-12-2025 12:04 AM

في الفلسفة الأولى للصراع، لم تكن الحروب سوى عجزٍ عن تخيّل السلام، ومنذ أن تدرّبت الإنسانية على تحويل خوفها إلى سلاح، صار العقل البشري ميّالاً إلى اختزال الوجود في ثنائية قاتلة: إمّا غلبةٌ بالقوة، أو فناءٌ بالصمت، وفي الشرق الأوسط، بلغ هذا الاختزال ذروته؛ فغدت الموازنات السنوية ليست أرقاماً في دفاتر، بل ما وراءها كاملة تؤمن بأن البقاء لا يتحقق إلا عبر فوهة بندقية، ولو افترضنا أن المال المخصّص للحرب قد غيّر بوصلته، من آلة الفناء إلى هندسة الحياة، لانتقلنا من فلسفة “إدارة الخطر” إلى حكمة “صناعة الأمل”، عندها، لن تكون التنمية مشروعاً اقتصادياً فحسب، بل ستصبح عملاً خارقا، يعيد تعريف معنى الإنسان في هذه الجغرافيا: من كائنٍ يعيش تحت سقف الخوف، إلى كائنٍ يسكن أفق الإمكان.

إن تحويل تمويل قذائف الدبابات والطائرات إلى جسورٍ للتنمية ليس مجرد إجراء مالي؛ إنه خلخلة جذرية لنمط وعيٍ كامل، يرى الاستقرار في توازن الرعب، لا في توازن العدالة، فالدول التي تقتات على صناعة العدوان لا يمكن لها أن تستثمر بصدق في صناعة المواطن، لأن المواطن الواعي يُربك هندسة الخوف التي تقوم عليها شرعية الأزمات، أما صُنّاع القرار الذين يشعلون الحرائق ثم يبيعون الماء بالقطرة، فهم ليسوا جهلة بما يفعلون، بل أسرى فلسفة مشوّهة للسيادة؛ فلسفة ترى في الفوضى أداة حكم، وفي النزاع ضمانة استمرار، وفي الشعب كتلة قابلة للإدارة لا كياناً مستحقاً للحياة الكريمة، هم يعلمون، لكنهم اختاروا أن يجعلوا من الوعي أداة تأجيل لا أداة تغيير، فهل سيصحون؟ في المنطق الفلسفي للتاريخ، لا تأتي الصحوة من يقظة الضمير، بل من تراكم الألم حتى يغدو استمرار الخطأ أكثر كلفة من تصحيحه، فغالباً لا يتوب مهندسو الفوضى طواعية، بل حين تكتشف السلطة أن النار التي أشعلتها صارت تلتهم عرشها.

ولو كُتب للشرق الأوسط أن يعيد تعريف ذاته وفق فلسفة العمران لا فلسفة الدمار والخراب، لتحول من فضاء للصدمة إلى فضاء للمعنى، ومن حقول اختبار للأسلحة إلى مختبرٍ للنهضة، ومن جغرافيا قلقة إلى حضارة مطمئنة بذاتها، وهنا يبرز الاستثناء الذي تحوّل إلى قاعدة أخلاقية في الإقليم: النموذج الأردني، ففي زمنٍ انزلقت فيه دولٌ كثيرة إلى منطق “الأمن عبر الفوضى”، اختار الأردن، بقيادته الهاشمية، نهجا مغايراً: الأمن بوصفه قيمةً أخلاقية، لا مجرد إجراء أمني، والاستقرار كعقدٍ اجتماعي لا كقبضةٍ حديدية صلبة، لقد تحوّلت الهاشمية في التجربة الأردنية من نسبٍ تاريخي إلى منهج حكم، قوامه الاعتدال، والحكمة، وتغليب منطق الدولة على غريزة الغلبة، وبذلك لم يكن الأردن دولةً محايدة أمام العواصف، بل كان ملاذاً أخلاقياً امناً لنتاجها؛ استوعب الصدمات الإقليمية، وفتح أبوابه للأشقاء بلا منّ، وحمى حدوده بلا استعراض، وصان مواطنيه لا بالأسلاك الشائكة ، بل ببناء معنى الوطن في الوعي قبل الخرائط.

وهكذا اصبح الأردن، لا بوصفه مساحة جغرافية بل كفكرة سياسية، برهاناً حيّاً على أن الأمن يمكن أن يُبنى بلا حروب، وأن الاستقرار لا يحتاج دائماً إلى جنرالات قتل وتدمير بقدر ما يحتاج إلى حكماء، وفي زمنٍ كانت فيه المنطقة تتكلم لغة الدخان، اختار الأردن أن يتكلم لغة العقل والاعتدال، لذلك، حين نتخيّل شرقاً أوسطاً تُحوَّل فيه ميزانيات الحروب إلى مشاريع تنموية حياتية، فإن أقرب صورة واقعية لهذا الحلم ليست حلماً مجرداً، بل تجربة قائمة اسمها الأردن، فهو الملاذ الذي أثبت أن الدولة ليست سلاحاً، بل استقرار وسكينة، وأن القيادة ليست اشعال حروب، بل إطفاء حرائق، وأن الحكمة، حين تُمنح لها فرصة الحكم، قادرة على أن تجعل من الجغرافيا المشتعلة وطناً آمناً وممكنًا.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :