facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




البراغماتية العربية


فيصل سلايطة
09-12-2025 11:21 AM

في اللغة والفلسفة، تعني البراغماتية النظر إلى الأمور بمنظار النفع المباشر، والحكم على الأفكار والأشخاص والقرارات من خلال ما تقدّمه من مكاسب لا من خلال ما تحمله من قيم أو مبادئ. إنها فلسفة “المنفعة أولًا”، حيث تتحوّل الأخلاق إلى تفاصيل جانبية، ويتراجع المبدأ أمام ما يؤمّن المصلحة الآنية.

وإذا كانت البراغماتية في الفلسفة الغربية نتاجًا لسياق فكري معقّد يقوم على التجريب والبحث عن النتائج، فإنّ نظيرتها العربية – ولنقل “البراغماتية العربية” – تحمل طابعًا آخر؛ طابعًا يمزج بين الخوف من المستقبل، وانعدام الثقة بالمؤسسات، ونزعة البقاء، وذاكرة جماعية مثقلة بعدم الاستقرار. هنا، لا تعود المنفعة منهجًا للتفكير فحسب، بل تتحوّل إلى غريزة اجتماعية تشكّل الكثير من اختيارات الأفراد والجماعات.

نحن العرب، في كثير من المشاهد السياسية والاجتماعية، نظهر ميلاً فاضحًا للانحياز لأيّ قويّ، حتى لو كان مجرمًا أو قاتلًا، ما دام يُحقّق لنا منفعةً مباشرة أو يحمي مصالحنا الضيقة. وبهذا المنطق قد تنحاز أقليات إلى أنظمة قمعية فقط لأنها تمنحها شعورًا بالحماية، فيما لا تجد مشكلة في أن يُسحق الآخرون، مهما كانوا كثرةً أو مظلومين، طالما أن كفة المنفعة تميل لصالحها. إنها معادلة قاسية: سلامي الشخصي أهمّ من عدالة الآخرين.

هذا الميل لا يأتي من فراغ. فالنفسية العربية، كما تشكّلت عبر عقود طويلة من الاضطراب السياسي والتقلبات الحادة، أصبحت تُقيّم الأمور من باب “النجاة الفردية”. يسأل الفرد نفسه:
من يحميني؟ من يفيدني؟ من يضمن استمرار يومي؟
لا:
من هو الأحق؟ من هو الأعدل؟ من يخدم المصلحة العامة؟

وهكذا تغيب فكرة “الجماعة” بمعناها الإنساني، وتظهر بدلاً منها قبائل صغيرة من المصالح؛ قبيلة الفرد، قبيلة العائلة، قبيلة الطائفة، قبيلة الحزب… وفي لحظة ما، يصبح كلّ ما هو خارج هذه الدوائر “مادة للاستخدام أو التضحية”.

البراغماتية العربية لا تقوم على التفكّر، بل على ردّ فعلٍ محكوم بالخوف والرغبة في الاستقرار بأي ثمن. ولذلك نرى تبريرًا لانتهاكات لا تُبرَّر، واصطفافًا مع طغاة لا يُصطفّ معهم، وتغاضيًا عن جرائم لو حدثت في مكان آخر لأُسقطت حكومات. كل ذلك فقط لأننا ننظر إلى حياتنا من خلال نافذة ضيقة اسمها “نفعي أنا”، لا “نفع الناس”.

ولعلّ الأخطر من ذلك أنّ هذا المنطق يخلق حلقة مفرغة: عندما يؤمن كل فرد بأن النجاة لا تكون إلا بالتحالف مع القويّ، يصبح المجتمع كله رهينة للقوة لا للحق. وعندما تتآكل فكرة العدالة العامة، تتآكل معها الثقة، وتضيع الحدود بين ما يجوز وما لا يجوز. يصبح كل شيء قابلًا للبيع: الموقف، الصوت، الأخلاق، وحتى الذاكرة.

البراغماتية العربية ليست قدَرًا، لكنها مرضٌ مزمن يحتاج شجاعةً جماعية لمعالجته.

نحتاج إلى إعادة تعريف المنفعة نفسها: أن ندرك أن النفع الحقيقي ليس ما نكسبه اليوم، بل ما يبقى غدًا؛ ليس ما يحمي فردًا، بل ما يبني مجتمعًا؛ ليس ما يخدم سلطة، بل ما يخلق دولة.

وحين نتحرّر من وهم المصلحة الضيقة، سنكتشف أن الحقّ ليس رفاهية، وأن العدالة ليست خيارًا ثانويًا، وأن المصلحة العامة ليست عكس مصلحتنا الشخصية… بل هي أصلها.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :