بين عقل الإنسان وذكاء الآلة .. هل تتصدّع الثقة أم تُولد من جديد في الجامعة؟
أ. د. هاني الضمور
09-12-2025 11:32 AM
في القاعات الجامعية التي كانت يومًا مقرًا للجدل الفكري والنقاش الحر، يبرز اليوم ضيف جديد لم يطرق الباب بل دخل بقوة: الذكاء الاصطناعي. ومع دخوله تغيّر شكل العلاقة الأكاديمية كلها، وبدأ كثير من الأساتذة والطلاب يطرحون سؤالًا لم يكن مطروحًا بهذه الحدة من قبل: هل ما زالت الثقة ممكنة؟
لقد هزّ الذكاء الاصطناعي المعادلة القديمة التي بُني عليها التعليم الجامعي. فالأستاذ لم يعد قادرًا على التأكد من أن الكلمات المكتوبة في بحث الطالب خرجت من عقله فعلًا، والطالب بدوره لم يعد مطمئنًا إلى أن استخدامه للأدوات الذكية لن يُفسَّر بوصفه غشًا أو تجاوزًا. وبين الطرفين تقف التكنولوجيا الحديثة كقوة صاعدة تُغيّر قواعد اللعبة دون استئذان.
ومع ذلك، فإن المشكلة لا تكمن في الآلة نفسها، بل في كيفية تعامل الإنسان معها. فإذا اختار الأستاذ أن يقف منها موقف الشك والرفض فقد يُحوّل الجامعة إلى مساحة من التوجس والمطاردات التقنية، حيث يسعى لضبط الطالب أكثر مما يسعى لتطويره. بينما تُظهر التجارب الحديثة أن الطريق الأكثر حكمة هو احتضان الأدوات الذكية وتنظيم استخدامها، لأن الطالب لن ينفصل عنها مستقبلًا في حياته المهنية، ولأن تجاهلها اليوم يشبه تجاهل الإنترنت في التسعينيات.
من ناحية أخرى، يحتاج الطالب إلى إدراك أن الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ، لا يمكن أن يمنحه فهمًا جاهزًا ولا خبرة ميدانية ولا رؤية نقدية. قد يساعده في صياغة فقرة أو ترتيب أفكار، لكن ما يجعل العمل الجامعي ذا قيمة هو البصمة الشخصية التي لا يمكن لأي خوارزمية تقليدها. وحين يتعامل الطالب مع الذكاء الاصطناعي باعتباره رافعة معرفية لا عكازًا للغش، فإن الثقة لن تتزعزع، بل ستنمو.
أما التقييم الأكاديمي فيحتاج اليوم إلى إعادة تصميم جذرية. فقد أثبتت السنوات الأخيرة أن الامتحانات التقليدية لم تعد كافية، وأن الأسئلة المباشرة يمكن لأي برنامج توليد نصوص الإجابة عنها بسرعة مذهلة. وهنا يظهر التقييم القائم على الخبرة الواقعية والأنشطة العملية والمناقشات الشفهية ودراسة الحالات المحلية باعتبارها أدوات أكثر قدرة على كشف الفهم الحقيقي للطالب. إن هذه الأساليب لا تحمي العملية التعليمية من الغش فحسب، بل تعيد لها روحها الأصلية القائمة على التفكير لا الحفظ، وعلى التحليل لا النسخ، وعلى الإبداع لا إعادة الإنتاج.
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي امتحانًا لجوهر العملية التعليمية، لا لطلابها فقط. فهو يدفع الجميع لإعادة النظر في دور الأستاذ، وفي مسؤولية الطالب، وفي شكل المعرفة نفسها في عالم تتغيّر فيه الإجابات أسرع مما نطرح الأسئلة. وربما تكون نتيجته الأعمق هي أن الثقة لن تُبنى اليوم بالافتراض، بل بالوضوح: وضوح المعايير، ووضوح الاستخدام، ووضوح الحدود الأخلاقية.
في النهاية، لن يكون مستقبل الجامعة في صراع مع الذكاء الاصطناعي، بل في مصالحة معه. فحين تلتقي خبرة الأستاذ بفضول الطالب وقوة التكنولوجيا، يمكن أن يولد نمط جديد من التعليم أكثر صدقًا وفاعلية. ومع هذا اللقاء، ليست الثقة مهددة بالانهيار كما يخشى البعض، بل ربما تكون على وشك أن تُولد من جديد… لكن هذه المرة على أسس أقوى، وأعمق، وأكثر وعيًا بحدود الإنسان وقدرته على قيادة الآلة لا الخضوع لها.