البلوكشين والعملات الرقمية في التمويل الإسلامي
د. محمد فخري صويلح
14-12-2025 02:23 PM
* بين الابتكار والضوابط الشرعية
يشهد النظام المالي العالمي تحولاً جذرياً تقوده التكنولوجيا المالية والابتكارات الرقمية،،، ويأتي في مقدمة هذه التحولات بروز تقنيات البلوكشين والعملات الرقمية بمختلف أنواعها،،، فبعد أن كانت هذه التقنيات حكراً على المشاريع التقنية ورواد الأعمال، أصبحت اليوم محور اهتمام البنوك المركزية والمؤسسات المالية، بل والدول الساعية إلى تطوير أنظمتها النقدية والمالية،، وفي خضم هذا التحول، تقف المصارف الإسلامية أمام فرصة استراتيجية بأن تكون طرفاً فاعلاً في صياغة مستقبل هذه التقنية بما يتوافق مع أحكام الشريعة ويعزز دورها في تمويل الاقتصاد الحقيقي.
تقوم تقنية البلوكشين على مبدأ اللامركزية، إذ يتم تخزين البيانات والمعاملات على شبكة موزعة يصعب التلاعب بها أو تزويرها،،، مما يجعلها بيئة موثوقة لإجراء المعاملات المالية بأمان وشفافية وبتكلفة منخفضة،،، ومن الناحية النظرية، وإضافة إلى تحقيق الانضباط الشرعي في المعاملات، فيمكن للبلوكشين المساهمة في حل كثير من الإشكاليات التي تواجه المصارف الإسلامية، مثل تعقيد إجراءات التوثيق، وضعف الكفاءة التشغيلية، وارتفاع تكلفة المعاملات، خصوصاً في التمويلات العابرة للحدود،،، فبدلاً من الاعتماد على سلسلة طويلة من الوسطاء، يمكن إنجاز المعاملات المالية بموثوقية وأمان بين الأطراف وبشكل مباشر وفوري، ما يجعل العمليات التمويلية أكثر سرعة وفعالية.
ومن أبرز التطبيقات الممكنة لتقنية البلوكشين في التمويل الإسلامي إصدار الصكوك الذكية،،، فالصكوك — التي تمثل أداة تمويل رئيسية للمصارف الإسلامية والحكومات — تعاني في صيغتها التقليدية من تعقيد كبير في عمليات الإصدار والإدارة والتداول،،، ومع استخدام العقود الذكية المبنية على البلوكشين، يمكن تحويل هذه الصكوك إلى أدوات رقمية مشفرة تدار آلياً، وبحيث يتم تنفيذ الشروط والأحكام تلقائياً دون تدخل يدوي،،، مما يعزز الشفافية ويزيد من ثقة المستثمرين،،، وقد بدأت عمليات اختبار هذا النوع من الحلول في إصدارات تجريبية في بعض الدول.
ويمكن لتقنية البلوكشين الإسهام في تطوير نماذج تمويل جماعي إسلامي أكثر كفاءة،،، فالتمويل الجماعي التقليدي يواجه تحديات في التحقق من مصداقية المشاريع وضمان التزامها بالشريعة وتوزيع الأرباح بشكل عادل وشفاف،،، وباستخدام العقود الذكية وتقنية البلوكشين، يمكن إنشاء منصات تمويل جماعي آمنة وموثوقة تتيح للمستثمرين تمويل مشاريع حقيقية في قطاعات مثل الزراعة، والطاقة المتجددة، والتعليم، والبنية التحتية، مع ضمان الشفافية الكاملة في كل مراحل العملية التمويلية،،، وهو ما يتسق وفلسفة التمويل الإسلامي القائمة على ربط المال بالإنتاج الحقيقي وتقاسم المخاطر.
وتمتد تطبيقات البلوكتشين إلى مجالات أخرى مثل إدارة سجلات وعمليات الأوقاف، وتمويل التجارة العابرة للحدود، وإنشاء محافظ استثمارية رقمية متوافقة مع الشريعة،،، فعلى سبيل المثال يمكن لتقنية البلوكشين أن توفر سجلات رقمية غير قابلة للتلاعب للأوقاف، ما يعزز الثقة في إدارتها ويزيد من قدرة المؤسسات الوقفية على جذب وقوفات جديدة وزيادة فرص التمويل والاستثمار،،، كما يمكنها تسهيل تمويل التجارة بين الدول عبر قنوات رقمية شفافة، تقلل الاعتماد على الأنظمة المصرفية التقليدية وتخفض التكاليف.
أما العملات الرقمية، فهي تمثل أحد أكثر مجالات النقاش إثارة في الأوساط المالية والشرعية،،، فمن جهة، توفر هذه العملات — خصوصًا العملات المستقرة Stablecoins — وسيلة سريعة وقليلة التكلفة لتحويل الأموال عبر الحدود، وتفتح آفاقاً جديدة لتسهيل عمليات التمويل والاستثمار،،، ومن جهة أخرى، تثير هذه العملات العديد من التساؤلات الشرعية، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعتها القانونية، ومشروعية تداولها، وإمكان استخدامها في المضاربة أو الأنشطة غير المشروعة،،، وهنا يظهر الفرق بين العملات المشفرة اللامركزية مثل Bitcoin، والعملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية CBDC والتي بدأت دول عديدة في تطويرها تمهيداً لاستخدامها بديلاً عن النقد التقليدي.
ومن الناحية الشرعية، لا يوجد مانع من استخدام التكنولوجيا الحديثة في المعاملات المالية، ما دامت لا تتعارض مع مقاصد الشريعة،،، غير أن الحكم الشرعي على العملات الرقمية يعتمد على حقيقة كل عملة على حدة، وعلى كيفية استخدامها،،، فإذا كانت العملة الرقمية تمثل مخزناً للقيمة ومتعارف عليها لإبراء الذمة وصادرة عن سلطة عامة وتستخدم كوسيط مبادلة مشروع، ولم ترتبط بممارسات محرمة مثل الربا أو المقامرة أو تمويل الأنشطة غير المشروعة، فينظر لها بالجواز الشرعي في التعامل ضمن الضوابط المحددة،،، أما العملات التي تُستخدم أساساً للمضاربة أو لا تستند إلى أصول حقيقية، فتثير إشكالات شرعية عميقة،، يضاف لذلك أن استخدام العملات الرقمية في التمويل الإسلامي يتطلب وجود أطر رقابية وتشريعية واضحة تحمي المتعاملين وتضمن عدم استغلال هذه العملات في أنشطة محرمة أو غير مشروعة،،، وهو ما يفرض على البنوك المركزية وهيئات الرقابة الشرعية التعاون في بناء نماذج عمل جديدة تراعي كلاً من الجوانب التقنية والشرعية.
وعلى الرغم من التحديات القائمة، فإن الفرصة أمام المصارف الإسلامية في مجال تطوير استخدامات البلوكتشين واعدة للغاية،،، فإذا استطاعت المصارف الإسلامية تطوير نماذج عمل رقمية مستفيدة من تقنية البلوكتشين مع المحافظة على الضوابط الشرعية، فإنها ستتمكن من قيادة موجة جديدة من الابتكار المالي الإسلامي.
إن دمج تقنيات البلوكشين والعملات الرقمية في التمويل الإسلامي ليس خطوة تقنية فحسب، بل هو تحول استراتيجي يمكن أن يعيد تشكيل الصناعة المصرفية الإسلامية بأكملها،،، وإذا تم هذا الدمج بحكمة وبناء على أطر تنظيمية وشرعية قوية، فستكون المصارف الإسلامية في موقع ريادي ضمن النظام المالي العالمي الجديد، قادرة على المنافسة والابتكار مع الحفاظ على هويتها الأصيلة.