حين تشتبك السياسات وتتكامل الإرادات
محمد علي الزعبي
17-12-2025 10:33 AM
ليس الإصلاح الاقتصادي فعلًا مجتزأً، ولا قرارًا معزولًا يُقاس ببيان أو إجراء عابر، بل هو منظومة متكاملة تُبنى حين تدرك الدولة أن الاستثمار والعمل والإنتاج ليست ملفات منفصلة، وإنما حلقات في سلسلة واحدة، إذا اختلّت حلقة تعطّل المسار كله. وفي هذا السياق، تتقدم الحكومة اليوم بخطى محسوبة نحو بناء بيئة إصلاحية حديثة، عنوانها التكامل بين وزارة الاستثمار، ووزارة العمل، ووزارة الصناعة والتجارة والتموين، في مقاربة تتجاوز إدارة الملفات إلى إعادة هندسة المنظومة الاقتصادية نفسها.
وزارة الاستثمار لم تعد تُدار بعقلية الترويج التقليدي، بل تتجه نحو بناء بيئة استثمارية ذكية، تبدأ من مراجعة عميقة لقانون البيئة الاستثمارية، لا بوصفه نصًا تشريعيًا جامدًا، بل كأداة سيادية لجذب رؤوس الأموال، وتحفيز المستثمر، وتوفير ضمانات قانونية وإجرائية تعكس جدية الدولة واستقرار خياراتها، التوجه الحكومي هنا لا يهدف فقط إلى استقطاب الاستثمار، بل إلى توطينه، وحمايته، وربطه بعجلة الإنتاج الحقيقي، بعيدًا عن الاستثمارات الطارئة أو الهشّة.
وفي الضفة الأخرى من المعادلة، تتحرك وزارة العمل خارج الإطار التقليدي لوظائف القطاع العام، لتعيد تعريف دورها بوصفها شريكًا في خلق فرص عمل مستدامة، لا مجرد جهة تنظيمية، فالعمل الجاري على تطوير وتفعيل مديريات العمل، وتعزيز دورها التشاركي مع القطاع الخاص، يعكس وعيًا حكوميًا بأن التشغيل لا يُفرض بقرارات، بل يُبنى بشراكات ذكية، وحوافز مدروسة، وسياسات سوق عمل مرنة تستجيب لاحتياجات المستثمر والباحث عن العمل معًا.
أما الدعم الحكومي المباشر للقطاع الخاص، من خلال المساهمة في دفع جزء من الرواتب، فهو انتقال جريء من منطق الرعاية إلى منطق الشراكة؛ حيث تتحمل الدولة جزءًا من المخاطر في المراحل الأولى، لتمنح الشركات القدرة على التوسع، وتمنح الشباب فرصة دخول سوق العمل بكرامة واستقرار، هذا النموذج لا يدعم القطاع الخاص فحسب، بل يحمي الاقتصاد من البطالة المزمنة، ويعيد الثقة بين الدولة وسوق العمل.
ويكتمل المشهد حين تتقاطع هذه الجهود مع وزارة الصناعة والتجارة والتموين، التي تمضي في تقديم تسهيلات حقيقية للمصانع والشركات، سواء على مستوى الإجراءات أو التمويل أو سلاسل التوريد. فالتكامل بين الصناعة والعمل والاستثمار لم يعد خيارًا تنظيميًا، بل ضرورة وطنية لخلق اقتصاد منتج، قادر على الصمود، ومؤهل للمنافسة.
ما يجري اليوم ليس إدارة أزمة، بل محاولة واعية لبناء نموذج اقتصادي أكثر تماسكًا، تُدار فيه الوزارات كفريق واحد، وتُصاغ فيه السياسات بعقل الدولة لا بعقل الملف، حكومة تدرك أن جذب الاستثمار بلا تشغيل ناقص، وأن التشغيل بلا إنتاج وهم، وأن دعم القطاع الخاص دون بيئة تشريعية عادلة مغامرة غير محسوبة.
إننا أمام توجه حكومي يستحق الدعم، لا لأنه خالٍ من التحديات، بل لأنه يتعامل معها بواقعية ومسؤولية، ويؤسس لمسار إصلاحي طويل النفس، لا يبحث عن إنجازات إعلامية سريعة، بل عن نتائج قابلة للاستدامة، وهذا، في جوهره، ما تحتاجه الدولة اليوم: إصلاح هادئ، متماسك، وشجاع.