الفجوة بين التخطيط والتنفيذ
عيسى حداد
21-12-2025 04:44 PM
لا تكمن إشكالية الإصلاح الإداري في غياب القوانين أو شحّ المبادرات، بل في الفجوة المتسعة بين النية المعلنة والنتيجة الملموسة. فكم من نظام وُضع بنيّة التطوير، وكم من خطة كُتبت بلغة طموحة، ثم توقفت عند حدود النص ولم تعبر إلى حياة الناس اليومية. من هنا، لم يعد السؤال: هل نريد إصلاحاً؟ بل: أي إصلاح نريد، وكيف نضمن أن يصل أثره إلى المواطن لا أن يبقى حبيس الأدراج؟
في هذا السياق، كشفت النقاشات التي أجرتها بعض الكتل النيابية مع وزيرة تطوير القطاع العام حول نظام إدارة الموارد البشرية عن ملاحظات لا يمكن تجاوزها. فشكاوى المواطنين والموظفين لم تعد تتعلق بالتفاصيل الإجرائية، بل بالشعور العام بعدم العدالة وغياب الاستقرار الوظيفي. آليات التوظيف، من الاستقطاب ومخزون الخريجين إلى شروط الإعلان ومنهجية الامتحانات، ما زالت تثير تساؤلات حول تكافؤ الفرص، فيما تحولت قضايا التثبيت والترفيعات وتعديل الأوضاع وفق المؤهل العلمي والتنقل بين الدوائر، من أدوات تنظيم يُفترض أن تعزز الاستقرار، إلى مصادر قلق وظيفي لدى كثيرين.
المشكلة هنا لا تكمن في وجود نظام، بل في طريقة تطبيقه. فالجمود في التنفيذ، وتجاهل الخصوصيات المجتمعية والواقع الإداري، يؤديان إلى نتيجة عكسية: نظام يُفترض أن يعزز العدالة، لكنه يضعف الثقة. ومن دون الثقة، تفقد أي منظومة إدارية فعاليتها، مهما بلغت دقتها القانونية. المطلوب إذاً مراجعة هادئة ومسؤولة، لا تهدف إلى نسف ما تحقق، بل إلى تصويب المسار والخروج بتوصيات عملية تربط النص بالواقع، والعدالة بالإحساس بها لا بالاكتفاء بتعريفها.
وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن الدولة قطعت خطوات مهمة على مستوى البناء المؤسسي والتشريعي، من خلال إقرار نظام جديد لإدارة الموارد البشرية، وإنشاء هيئة الخدمة والإدارة العامة، وتطوير أدوات أكثر موضوعية للتقييم والاختيار. كما أسهمت برامج التدريب وبناء القدرات في تعزيز الوعي بأهمية الاستثمار في العنصر البشري. غير أن هذه الجهود، على أهميتها، تبقى مدخلاً للنجاح لا ضمانة له، ما لم تُترجم إلى أثر ملموس يشعر به المواطن والموظف على حد سواء.
فالاختبار الحقيقي يبدأ عندما تنتقل الخطط من الورق إلى الميدان، وعندما يشعر المواطن بأن الخدمة تحسّنت، والإجراء أصبح أوضح، والفرصة باتت أكثر عدالة. ومع دخول البرنامج التنفيذي للأعوام (2026–2029)، تصبح المسؤولية مضاعفة: إما أن تتحول الأنظمة إلى ممارسة يومية فاعلة، أو تبقى إنجازاً شكلياً لا يغيّر الواقع.
وفي البحث عن نموذج يختصر هذه الفكرة، لا نحتاج إلى تقارير دولية أو تجارب بعيدة. التجربة أمامنا، تجربةً وطنيةً حيّة: المنتخب الأردني لكرة القدم. فقد أثبت “النشامى” أن محدودية الموارد لا تمنع تحقيق الإنجاز حين تتوافر الإدارة الرشيدة، وحسن الاختيار، والانضباط، والعمل بروح الفريق. لم يكن التفوق مادياً، بل نتاج تفكير مختلف وقدرة على تعظيم الإمكانات المتاحة.
هذه التجربة ليست استعارة إنشائية، بل درس إداري بامتياز. فهي تؤكد أن التخطيط الواضح، والمساءلة، وتحديد الأدوار، والثقة بالقدرات المحلية، قادرة على إحداث فارق حقيقي. وهي المبادئ ذاتها التي تحتاجها الإدارة العامة إذا أرادت الانتقال من ثقافة التبرير إلى ثقافة الإنجاز.
ولا يكتمل أي إصلاح دون الإنسان، مواطناً وموظفاً. فكما لا يلعب اللاعب من أجل العقد فقط، بل من أجل الشعور بالمسؤولية والانتماء، يحتاج العمل العام إلى موظف يرى في موقعه قيمة لا مجرد وظيفة، وإلى مواطن يترجم انتماءه إلى التزام واحترام للقانون ومساءلة واعية. فالدول لا تُبنى بالحماس وحده، بل بتحويله إلى سلوك يومي وإنتاج فعلي.
لكن التجربة أثبتت أن الاعتماد المفرط على الاجتهاد البشري، دون أن يسنده نظام ذكي وواضح، يفتح الباب للتفاوت في التطبيق مهما حسنت النوايا. وحين يغيب التوحيد والشفافية، تتحول الإجراءات من أدوات عدالة إلى مصادر تشكيك.
إن ردم الفجوة يتطلب الانتقال من “إدارة الإجراءات” إلى “إدارة النتائج”، عبر تبني منظومات رقمية ذكية تضمن تكافؤ الفرص بعيداً عن التدخل البشري، وتفعيل أدوات قياس أثر حقيقية تضع المسؤول أمام مسؤوليته المباشرة عن جودة الخدمة، لا الاكتفاء باكتمال المعاملات الورقية.
في الخلاصة، التحدي الذي نواجهه اليوم ليس نقص الأفكار ولا غياب القوانين، بل القدرة على كسر الفجوة بين التخطيط والتنفيذ، وبين النيّة والنتيجة. وتجربة “النشامى” تُذكّرنا بحقيقة بسيطة وعميقة في آن: أن قلة الإمكانات ليست قدراً محتوماً، بل اختباراً لطريقة التفكير، وأن الإدارة حين تتحلى بالشجاعة والمرونة، قادرة على تحويل التحديات إلى فرص. تلك هي فلسفة الإنجاز التي نحتاجها في مؤسساتنا، لا كشعار، بل كممارسة يومية مسؤولة.