الرحيل الناضج لا يحتاج ضجيجًا وطبولًا
د. ثروت المعاقبة
21-12-2025 11:50 PM
الرحيل ليس مجرّد خطوة إلى الخلف، ولا قرار يُتخذ تحت الضغط، بل هو امتحان صامت للأخلاق، يكشف جوهر الإنسان أكثر مما تكشفه سنوات البقاء، ففي لحظات المغادرة، تتعرّى النوايا وتسقط الأقنعة.
عندما يصل الإنسان إلى لحظة القرار، تلك اللحظة الصامتة التي يتعب فيها القلب من التبرير، ويملّ العقل من المحاولات البائسة من التفكير. في هذه اللحظة تحديدا لا تجعل الرحيل انفجارا مدويا، ولا تحوّله إلى ساحة تصفية حسابات، فالرحيل، مهما كان سببه، فيعد اختبار أخلاقي أخير، يُظهر حقيقتك أكثر مما أظهرتها سنوات البقاء.
النهايات ليست لحظة غضب، بل خلاصة مسار، وهي النتيجة الطبيعية لتراكمات صغيرة لم تعلن، ووعود لم تُحفظ، ومشاعر استُهلكت حتى الجفاف، ومن الخطأ أن نحمّل النهاية وحدها كل القبح، بينما الطريق إليها كان مليئًا بالإشارات التي تجاهلناها مرارا، فالنهاية لا تخلق الحقيقة، بل تكشفها.
هناك فرق كبير بين من يطوي الصفحة بهدوء، ومن يمزّق الكتاب بأكمله، فالأول يحفظ ما كان جميلًا، حتى لو انتهى، ويعترف بأن التجربة رغم فشلها كانت فصلًا من حياته أما الثاني، فيحاول أن ينتصر بإلغاء الماضي، وكأن الإنكار بطولة، وكأن الإساءة تمحو الخسارة.
الرحيل الناضج لا يحتاج ضجيجًا وطبولا، ولا يحتاج إلى منشورات، ولا شهود، ولا خطابات طويلة لتبرير الانسحاب، فالرحيل النظيف يُشبه الاعتذار غير المنطوق هادئ، واضح، بلا تجريح، وهو قرار يُتخذ لأن الاستمرار أصبح عبئا كبيرا.
النهايات دائما تكشف معادن الناس ففي البدايات مثلا، الجميع متشابهون وعود كبيرة، لغة متناسقة، حضور لافت وقوي، ولكن في النهايات، تسقط الأقنعة جميعها.
هناك من يغادر وهو يحفظ الود، حتى لو انكسر، وهناك من يخرج وهو يترك وراءه رماد كلمات قاسية، وكأنه يريد أن يتأكد أن لا أحد سينجو بسلام سواه من هذه المعركة.
الأخلاق لا تُقاس عند الربح، بل عند الخسارة، ولا تُختبر في لحظات الصفاء والود ، بل في لحظات الابتعاد والإنكسار، فمن استطاع أن يكون كريمًا وهو يرحل، فقد امتلك نفسه واحترمه الآخرين، ومن أساء وهو يغادر، لم يخسر العلاقة فقط، بل خسر صورته أمام ذاته.
أسوأ ما في بعض النهايات أنها تُسيء لكل ما سبقها، فتتحوّل الذكريات إلى مادة للسخرية، وأن يُعاد تفسير كل موقف بنية سوداء، فقط لتبرير الرحيل هذا ليس شجاعة، بل هروب من تحمّل المسؤولية، فليس كل فشل خيانة، وليس كل نهاية تعني أن البداية كانت كذبة، فالنضج أن تقول انتهينا لأننا لم نعد قادرين على الاستمرار لا أن نقول: انتهينا لأننا على خطأ، فالحقيقة غالبًا أكثر تعقيدًا فالصمت أحيانًا أبلغ من ألف تفسير.
ليس مطلوبًا منك أن تُغلق الأبواب بعنف كي تثبت قوتك أحيانًا، الصمت هو أعلى درجات الاحترام أن ترحل دون تشويه، دون تحريض، دون استعراض ... أن تترك مساحة للذكرى، فالذين يعرفون قيمتهم، لا يحتاجون إلى التقليل من الآخرين ليغادروا، والذين يثقون بقرارهم، لا يبحثون عن تصفيق بعد الرحيل.
الرحيل ليس نهاية القصة… بل نهاية فصل من هذه الحياة ، ومن الحكمة ألا نسمح لفصل واحد مهما كان مؤلمًا أن يحدّد أسلوب الكتاب ونهايته ....اطوِ الصفحة لأنك تعلّمت، لا لأنك سئمت أغلق الكتاب مؤقتًا، لا لتكرهه، بل لتضعه في مكانه الصحيح .
وفي النهاية، تذكّر:
قد نُخطئ في الاختيار.
قد نفشل في الاستمرار.
لكننا نملك دائمًا خيارًا واحدًا لا يجوز الاستغناء عنه:
أن تكون النهايات على قدر الأخلاق، لا على قدر الوجع.