facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




العربية معركة الهوية والمعرفة والرقمنة


سارة طالب السهيل
22-12-2025 12:05 AM

في يوم اللغة العربية، ليست اللغة العربية مجرد أداة للتواصل، بل هي وعاء الهوية، وذاكرة الحضارة، وأحد أهم مقومات بقاء الشعوب. فقد احتوت عبر تاريخها الطويل العلوم والمعارف، وكانت لغة الفلسفة والطب والفلك والآداب والفنون لقرون متتالية، ولا تزال حتى اليوم قادرة على التكيّف مع التحولات الحضارية واستيعابها. وقد اعترفت الأمم المتحدة بهذه المكانة حين اعتمدت اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل فيها، خلال الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو في الثامن عشر من ديسمبر عام 1973.

ويمثل اليوم العالمي للغة العربية مناسبة تتجاوز الطابع الاحتفالي، ليكون محطة للتأمل والمساءلة حول موقع اللغة العربية في عالم متسارع تحكمه المعرفة الرقمية. فهو يوم لقياس حضور العربية عالميًا، ورصد قدرتها على التفاعل الحي مع الفضاء الرقمي، الذي لم يعد هامشًا تقنيًا، بل ساحة مركزية لإنتاج المعرفة وصياغة الوعي.

ويؤكد الواقع المعاصر، وفق آراء المتخصصين، أن اللغة العربية استطاعت – بفضل ثرائها البنيوي، وإعجازها، وقدسيتها كلغة للقرآن الكريم – أن تحافظ على مكانتها، بل وأن تشهد تزايدًا في الإقبال على تعلمها واستخدامها. ويتجلى ذلك في حضورها المتنامي في المحافل الدولية، ووسائل الإعلام العالمية، والفضائيات الناطقة بالعربية في العواصم الغربية، فضلًا عن اهتمام كبرى الجامعات والأكاديميات بتدريسها، ما أسهم في سرعة انتشارها خارج محيطها الجغرافي.

غير أن هذا المشهد الإيجابي لا يخلو من تحديات عميقة تواجه اللغة العربية، لا سيما داخل أقطارنا العربية. فعلى الصعيد التعليمي، برز تحدٍّ يتمثل في الانتشار الواسع لمدارس اللغات الأجنبية، وتدريس المواد العلمية بلغات غير العربية، في مقابل تراجع الاهتمام بتعزيز العربية كلغة علم وبحث، وهو ما أضعف حضورها في منظومات المعرفة الحديثة.

وعلى الصعيد التقني، أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في توسيع دائرة استخدام اللغة العربية، لكنها في الوقت ذاته ساهمت في طغيان اللهجات المحلية والعامية على حساب اللغة العربية الفصحى، ما أوجد فجوة واضحة بين اللغة المعيارية المكتوبة واللغة المتداولة يوميًا، وأثر سلبًا على الضبط اللغوي في الفضاء الرقمي.

وفي المقابل، استطاعت اللغات الغربية، وعلى رأسها الإنجليزية والفرنسية، أن تحجز لنفسها موقعًا متقدمًا في العالم الرقمي، ليس فقط بفعل انتشارها التاريخي، بل نتيجة سياسات واعية استثمرت مبكرًا في رقمنة اللغة وبناء قواعد بيانات ضخمة لها. فقد جرى توحيد المصطلحات، وتبسيط البنى اللغوية رقميًا، وربط الجامعات ومراكز البحث العلمي بشركات التكنولوجيا، ما جعل هذه اللغات أكثر قابلية للمعالجة الحاسوبية، وأكثر حضورًا في محركات البحث، ومنصات التعليم، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

هذا التفوق الرقمي للغات الغربية لم يكن محايدًا، بل أسهم في خلق فجوة معرفية واضحة، حيث أصبحت اللغة المهيمنة رقميًا هي التي تُنتج المعرفة، وتحدد المفاهيم، وتعيد تشكيل الوعي العالمي. وفي ظل هذا الواقع، فإن ضعف حضور اللغة العربية في الفضاء الرقمي لا يعني تأخرًا تقنيًا فحسب، بل يهدد بتحويلها إلى لغة استهلاك ثقافي بدل أن تكون لغة إنتاج معرفي. فالأمم التي لا تُبرمج لغتها، تُبرمج بعقول غيرها، وتفقد تدريجيًا قدرتها على سرد ذاتها والدفاع عن قيمها ومصالحها في عالم تحكمه الخوارزميات.

وخلال العقد الأخير، واجهت اللغة العربية تحديات معقدة في مجال الرقمنة، إلا أنها تمكنت من تجاوز بعض هذه العقبات. فقد شهدنا حضورها المتزايد في التطبيقات الرقمية، وماكينات الصرف الآلي، ومتاجر التطبيقات العالمية، وغيرها من المنصات التقنية، ما أسهم في أن تحتل اللغة العربية المرتبة الرابعة بين اللغات الحية في العالم من حيث عدد المستخدمين.

ورغم ذلك، لا يزال المحتوى الرقمي العربي ضعيفًا قياسًا باللغات الأخرى، إذ لا تتجاوز نسبته ما بين 3% و12% من إجمالي المحتوى على شبكة الإنترنت. ويعود ذلك إلى عوامل متعددة، من أبرزها التعقيد البنيوي والثراء الاستثنائي للغة العربية، وهو ثراء لم تتمكن التقنيات الرقمية حتى اليوم من توظيفه بالشكل الأمثل.

فاللغة العربية تزخر بما يقارب ستة عشر ألف جذر لغوي، تتفرع عنها أكثر من ثلاثة عشر مليون كلمة غير مكررة. وبحسب دراسات المتخصصين في علم الصوتيات واللسانيات، فإن هذا الرصيد اللغوي يفوق مفردات اللغة الفرنسية بنحو ستة وتسعين ضعفًا، والروسية بنحو اثنين وتسعين ضعفًا، ويعادل قرابة ضعف مفردات اللغة الإنجليزية. ويُضاف إلى ذلك نظام التشكيل الذي قد يغيّر المعنى كليًا، والاشتقاق اللغوي الذي يسمح بتوليد عشرات الكلمات من جذر واحد، فضلًا عن غنى العربية بالمرادفات، إذ قد تحمل الكلمة الواحدة أكثر من مئة دلالة.

هذا الثراء اللغوي، الذي يُعد مصدر قوة حضارية وثقافية، يتحول في المجال الرقمي إلى تحدٍّ تقني كبير، إذ يصعّب بناء قواعد بيانات لغوية شاملة، ويُفسر جزئيًا محدودية قدرة التقنيات الرقمية الحالية على استيعاب الإمكانات الهائلة للغة العربية.

وتتجلى هذه الإشكالية بوضوح في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تعتمد النماذج الحديثة على كميات ضخمة من البيانات المصنفة والمنظمة. إن نقص قواعد البيانات العربية المتنوعة والعميقة يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام تطوير نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على فهم اللغة العربية وتحليلها بدقة. ومن هنا، فإن تهميش العربية رقميًا لا يعني غيابها عن التطبيقات فحسب، بل يهدد بإقصائها عن مستقبل المعرفة ذاته.

نعم، لغتنا العربية محفوظة بحفظ القرآن الكريم، غير أن هذا الحفظ لا يُعفي دولنا العربية، حكومات ومؤسسات وأفرادًا، من مسؤولية تطويرها بما يتلاءم مع متطلبات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي. وهو ما يستدعي إطلاق مشروعات علمية استراتيجية، وتوفير دعم مالي مستدام، والاستثمار في البحث اللغوي والتقني بوصفه استثمارًا في المستقبل.

إن بناء قواعد بيانات رقمية شاملة للغة العربية، وإثراء محتواها المعرفي على الإنترنت، ليس ترفًا ثقافيًا، بل هو جزء لا يتجزأ من حماية الأمن القومي العربي، وصون الهوية، وضمان حضور العربية في معركة المعرفة العالمية. فاللغة التي لا تُنتج معرفة في العصر الرقمي، تُستهلك بغيرها، وتفقد قدرتها على تشكيل الوعي وصناعة الحضارة.

"الرأي"





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :