التحولات العالمية غيّرت معايير الإعلام الغربي
محمد نور الدباس
24-12-2025 10:19 AM
لم يعد الإعلام الغربي في العقدين الأخيرين يحتفظ بمكانته التقليدية بوصفه المصدر الأكثر تأثيرًا أو الأكثر التزامًا بالمعايير المهنية، فقد فرضت التحولات الجيوسياسية، وتطور التكنولوجيا الرقمية، وصعود فاعلين إعلاميين جدد، إعادة صياغة عميقة في طريقة إنتاج الخبر وتوجيه الرواية الإعلامية. وتبعًا لذلك تغيّرت المعايير التي طالما اعتُبرت ركيزة الإعلام الغربي، مثل الموضوعية، التوازن، الشفافية، وتعدد وجهات النظر، وهذا التحول لا يتصل بعامل واحد، بل هو نتاج تراكمي لحالة عالمية متحركة أعادت تشكيل النظام الإعلامي الدولي، بمعنى أن الإعلام الغربي شهد خلال العقدين الأخيرين تحوّلات عميقة، ليس فقط في أدواته، بل في معاييره المهنية والأخلاقية، وذلك نتيجة عوامل عالمية متراكبة؛ العامل الأول صعود القوى الجديدة وتعدّد مراكز السردية، فلم يعد الغرب المصدر الوحيد للمعلومات أو الرواية حول الأحداث، وبروز الإعلام الآسيوي والعربي واللاتيني شكّل منافسًا حقيقيًا، ما دفع الإعلام الغربي إلى تعديل خطابه أو التشدد فيه لتعزيز "نفوذه السردي"، أي تعدّد مراكز السردية وتراجع احتكار الرواية الغربية، فشهد النظام الدولي صعود قوى جديدة (كالصين، والهند، وتركيا، إضافة إلى تطور مؤسسات إعلام عربية ولاتينية)، مما أنهى عمليًا احتكار الغرب للرواية الإخبارية، فالإعلام اليوم أصبح ساحة تنافس بين روايات متعددة، لكل منها جمهورها ومنصاتها وأدواتها. هذا التعدد دفع الإعلام الغربي إلى إعادة تعريف خطابه؛ فإما أن ينخرط في سباق السرعة والتأثير، أو يتمسّك بمعاييره التقليدية على حساب انتشاره. وفي كثير من القضايا، خاصة الجيوسياسية، ظهر ميل واضح لتعزيز "السردية الغربية" ولو بتقليل مساحة الأصوات المخالفة.
أما العامل الثاني فهو التحوّل من الإعلام التقليدي إلى المنصّات الرقمية، أي التحول الرقمي وتغوّل المنصات الاجتماعية، فشبكات التواصل الاجتماعي كسرت احتكار التلفزيون والصحافة المكتوبة، وجمهور اليوم يقارن بين عشرات المصادر في لحظات، ما أجبر الإعلام الغربي على اعتماد السرعة والتفاعل أحيانًا على حساب التحقق والدقة، والعامل الثالث تأثير الاستقطاب السياسي الداخلي، أي الاستقطاب السياسي وتأثيره على الخط التحريري، فاتساع الهوة بين تيارات اليمين واليسار جعل كثيرًا من المؤسسات الإعلامية الغربية تميل إلى الاصطفاف بدل الحياد، وهذا غيّر معايير التغطية والانتقاء وحتى المفردات، خصوصًا في قضايا الهجرة، الأمن، الحروب، والشرق الأوسط.
وبالنسبة للعامل الرابع الحروب الجديدة والمعارك السردية، أي صراع الشرعيات، فحروب أوكرانيا وغزة نموذج واضح لانحيازات ظهرت جليًا في الإعلام الغربي، واتُّهمت مؤسسات إعلامية بإتباع أجندات جيوسياسية على حساب المهنية، ما أدى إلى تراجع مصداقيتها في عيون كثير من الشعوب، والعامل الخامس وهو التأثير الاقتصادي ونموذج الربح، فبقاء الصحف والقنوات قائم على الإعلانات والاشتراكات دفعها إلى إنتاج محتوى “جاذب”، حتى لو كان مثيرًا أو متحيزًا، وتغيّرت المعايير نحو زيادة التفاعل أكثر من الالتزام بالتوازن، وأخيراً العامل السادس وهو صعود الذكاء الاصطناعي وأتمتة الأخبار، فالاعتماد المتزايد على الخوارزميات أثّر على ما يُعرض وما يُخفى، وأصبحت شعبية المحتوى تحكمه الأنظمة الحسابية أكثر من التحرير التحريري التقليدي.
خلاصة القول إن المعايير التقليدية التي طالما افتخر بها الإعلام الغربي—الحياد، الموضوعية، تعدد وجهات النظر—تعرّضت لهزّة قوية، ولم يعد الإعلام الغربي هو المرجعية الكاملة في تشكيل الرأي العام العالمي، بل أصبح جزءًا من سوق عالمي مفتوح للروايات، تتنافس فيه القوى والدول والمنصّات والأفراد، أي أن التحولات العالمية قد غيّرت (بجغرافيتها، وتكنولوجيتها، وصراعاتها، ونماذجها الاقتصادية) البنية العميقة لمعايير الإعلام الغربي، فلم يعد الحديث عن حياد مطلق أو موضوعية كاملة ممكنًا في بيئة دولية تتصارع فيها السرديات، وتتداخل فيها المصالح مع الإعلام، ويتنافس فيها الخبر مع الخوارزمية، ومع ذلك، يبقى الإعلام الغربي قادرًا على استعادة بعض من قيمه إذا أعاد التوازن بين المهنية والسرعة، وبين الربحية والمسؤولية، وبين سرديته الخاصة ومتطلبات الحقيقة.