من قرار 242 إلى خطة ألون: كيف يُعاد تشكيل الشرق الأوسط؟
م. عمر الشرمان
25-12-2025 01:57 PM
لم يكن قرار مجلس الأمن 242، الصادر عقب حرب حزيران 1967، مجرد محاولة دولية لاحتواء نتائج الحرب، بل شكّل منذ لحظته الأولى إطارًا استراتيجيًا طويل الأمد لإدارة الصراع العربي–الإسرائيلي، لا حله. فاللغة الغامضة التي صيغ بها القرار، خصوصًا في ما يتعلق بالانسحاب من (أراضٍ محتلة) دون تعريف أو سقف زمني، لم تكن تفصيلًا قانونيًا عابرًا، بل مدخلًا سياسيًا مقصودًا لإبقاء النزاع مفتوحًا وقابلًا لإعادة التفسير وفق موازين القوة.
هذا الغموض لم يبقَ في حدود النص الأممي، بل سرعان ما تُرجم ميدانيًا عبر ما عُرف بـ خطة ألون، التي قدّمها يغال ألون بعد الحرب مباشرة. ورغم أنها لم تُعتمد رسميًا، إلا أنها شكّلت العقل الاستراتيجي الحقيقي للسياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية. فقد قامت الخطة على معادلة دقيقة: الاحتفاظ بالأرض ذات الأهمية الأمنية، والتخلّي الشكلي عن الكثافة السكانية الفلسطينية، بما يضمن السيطرة الجغرافية دون عبء ديموغرافي.
وفق هذه الرؤية، اعتُبر غور الأردن، والقدس ومحيطها، والمرتفعات الاستراتيجية، مناطق أمن قومي لا يجوز الانسحاب منها، بينما تُركت المدن الفلسطينية الكبرى في جيوب سكانية منفصلة، بلا سيادة ولا اتصال جغرافي حقيقي. هكذا وُلدت فكرة “الحكم الذاتي” قبل أن تُسوّق دوليًا، لا بوصفها خطوة نحو الدولة، بل كبديل دائم عنها.
الأهم من ذلك أن خطة ألون أعادت تعريف مفهوم الحدود. لم يعد خط الرابع من حزيران 1967 مرجعية أمنية، بل نهر الأردن. ومنذ تلك اللحظة، تحوّل الأمن إلى أداة سياسية تُستخدم لتعطيل أي انسحاب كامل، وتبرير استمرار السيطرة، وتحويل الاحتلال من حالة استثنائية إلى واقع طويل الأمد قابل للإدارة.
ومع مرور الزمن، لم تُلغِ المسارات السياسية اللاحقة – من كامب ديفيد إلى أوسلو – هذه الفلسفة، بل أعادت إنتاجها بصيغ مختلفة. تغيّرت المصطلحات من “انسحاب” إلى “إعادة انتشار”، ومن “الدولة” إلى “السلطة”، لكن الجوهر بقي واحدًا: إدارة الصراع ضمن سقف لا يتجاوز روح القرار 242 ولا جوهر خطة ألون.
في سياق النظام العالمي الجديد، تتضح خطورة هذا النموذج. فالشرق الأوسط لم يعد يُدار بمنطق الحلول النهائية، بل بمنطق ضبط الأزمات ومنع الانفجارات الكبرى. لم تعد القوى الكبرى تبحث عن تسويات عادلة، بل عن استقرار وظيفي: كيانات مستقرة أمنيًا، ضعيفة سياسيًا، تؤدي أدوارًا محددة في منظومة إقليمية أوسع.
ضمن هذا الإطار، تحوّلت القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى ملف أمني–إنساني، مرتبط بأمن إسرائيل، واستقرار الدول المجاورة، وإدارة السكان لا تمكينهم سياسيًا. وهذا التحول ليس انحرافًا طارئًا، بل امتداد طبيعي للمسار الذي بدأ بقرار 242 وتكرّس بخطة ألون.
هنا يبرز الأردن بوصفه نقطة ارتكاز جيوسياسية مركزية في هذا النظام الإقليمي الجديد. فالأردن ليس مجرد دولة مجاورة لفلسطين، بل لاعب محوري بحكم الجغرافيا، وملف اللاجئين، والوصاية على المقدسات، وطبيعة العلاقة التاريخية مع الضفة الغربية. أي إعادة ترتيب إقليمي لا يمكن أن تتجاوز الأردن أو تتجاهل دوره.
من هذا المنظور، يمكن قراءة تحركات السفير الأميركي الجديد في عمّان، لا باعتبارها نشاطًا دبلوماسيًا تقليديًا، بل كجزء من عملية أوسع لإعادة مواءمة الإقليم مع مرحلة ما بعد التصعيد في فلسطين. فالتحركات السياسية اليوم لا تُقاس بما يُقال علنًا، بل بما يُحضَّر له بهدوء: تحصين الاستقرار الداخلي، ضبط تداعيات الصراع، ومنع انتقاله إلى الساحات الحساسة، وفي مقدمتها الأردن.
كما كانت خطة ألون ترجمة ميدانية لقرار سياسي أممي، فإن الدبلوماسية المعاصرة تؤدي الدور ذاته: ترجمة ناعمة لخرائط تُرسم بلا إعلان، خرائط تُدار فيها القضايا الكبرى بلا حلول جذرية، وتُرحّل فيها الأسئلة المصيرية إلى أجل غير مسمّى.
في الخلاصة، لم يفشل مشروع السلام لأن الحل مستحيل، بل لأن الإطار الذي أُديرت ضمنه العملية السياسية صُمم منذ البداية ليمنع الوصول إلى حل عادل. فبين غموض قرار 242 وواقعية خطة ألون، تشكّل نموذج لإدارة الصراع لا يزال يحكم الشرق الأوسط حتى اليوم، في ظل نظام عالمي جديد يُجيد التحكم بالأزمات.