يبدأ الماء بوصفه مادةً عادية في الوعي السريع: صنبورٌ يُفتح، كوبٌ يُملأ، ريٌّ يُنجَز، ثم تمضي الحياة. وتتبدّل صورته حين يُقرأ بوصفه قيمة؛ أي حين تُقاس به أخلاق المجتمع وحين تُقاس به نسبة الهدر، وحين تُختبر عبره العدالة والشبكات والعدادات. ويغدو الماء عندئذٍ لغةً ثانية للوطن: لغةٌ صامتة تعلّم الناس معنى القناعة، وتُدرّب الإدارة على معنى الأمانة، وتُعرّي الرفاه المزيّف حين يتزيّن بما يهدره.
تتكشّف في الأردن علاقةٌ خاصة بالماء؛ علاقةٌ تصنعها الجغرافيا، وتثبّتُها الذاكرة كما الوثائق. فالمكان هنا يربّي حاسّة الإصغاء للغيم، ويمنحُ للحجر وظيفةً تتجاوز الصلابة: يجعله مخزنًا للمطر، وكتابًا للندرة، ودرسًا في تحويل القليل إلى وفرة. وتتحوّل الحكاية الشعبية في القرى والبوادي إلى سجلٍّ غير مكتوب: أسماء العيون والآبار، ومواسم السيول، ومسارات السواقي والآبار، وأخلاق السقاية التي تعلّم الناس تقديم الماء بوصفه كرامةً تُهدى.
يستدعي تاريخ المكان شواهد كثيرة على عقل الماء. في الجنوب، يلمع أثر الأنباط بوصفه هندسةً للنجاة: حصادُ المطر، توجيهُ الجريان، صونُ القطرة في صخرٍ يعرف حرارة الصيف ومكر الريح. وفي الشمال، تتحدث القنوات القديمة والسدود الصغيرة عن مجتمعاتٍ فهمت أن الماء مشروعُ بقاء، وأن العمران يبدأ من قدرة الناس على جمع المطر ثم حمايته من التبخر والضياع. وفي البادية، ينهض منطقٌ آخر: منطقُ التشارك في المورد، وحراسة الحقّ في الشرب، وربطُ الماء بفكرة الجوار والرفقة، حتى يغدو الساقي شاهدًا على الكرامة مثلما يغدو البئر شاهدًا على التحالفات والمصالحات.
يُختبر الحاضر في هذه الجغرافيا اختبارًا قاسيًا؛ فالماء يتحوّل إلى مرآة تكشف مستوى الحوكمة، وتكشف مستوى الوعي الاجتماعي في الوقت نفسه. ويُرى أثر ذلك في تفاصيل تبدو صغيرة ثم تتسع: صيانةُ الشبكات، وحمايةُ مصادر المياه من التلوث، وتنظيمُ الريّ، وإعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة والصناعة، وترشيدُ الاستهلاك داخل البيوت والمؤسسات، وتجريمُ الاعتداء على الخطوط الرئيسية والمصادر. ويغدو كل تفصيل من هذه التفاصيل سؤالًا أخلاقيًا وبندًا إداريًا: من يملك حقًّا أكبر حين تضيق الموارد؟ كيف تُحمى حصص الفقراء من قسوة السوق؟ وكيف تُصان كرامة الناس حين تتعثر الخدمة؟ وكيف تُبنى الثقة بين المواطن والمؤسسة عبر شفافيةٍ تُقنع، لا عبر خطابٍ إنشائي يُطمئن؟
يُستعاد هنا معنى الماء العادل، فهو ماءٌ يصل في موعده، ويصل بجودةٍ تُحترم، ويصل بتكلفةٍ تُدار بعقلٍ اجتماعي. فالماء حين يختلّ توزيعُه يفتح بابًا واسعًا للغضب، وحين ينتظم يفتح بابًا واسعًا للطمأنينة. ويحتاج هذا الانتظام إلى أكثر من مشاريع ضخمة؛ يحتاج إلى ثقافةٍ يومية ترى في القطرة مسؤوليةً عامة. فالهدر الذي يحدث في بيتٍ واحد يتكاثر رمزيًا؛ لأنه يعلّم الطفل أن الوفرة شكلٌ من أشكال القوة، ويعلّم المجتمع أن اللامبالاة ممكنة ما دام الماء يعود. وتبدأ التربية المائية من اللغة نفسها: من تحويل السؤال عن الماء إلى سؤال عن السلوك، وعن قيمة ما نستهلكه، وعن أثره على غيرنا.
يتعمّق المعنى حين يدخل الماء في قلب الهوية الثقافية. فالأردني وهو يعبر الحجر الأسود في الشرق، أو يتأمل منحدرات الجنوب، أو يتابع وديان الشمال، يشعر أن الماء يكتب تضاريس الوجدان مثلما يكتب تضاريس الأرض. ويكشف هذا الإحساس عن طبقةٍ أعمق ترى في الماء حقًّا في الحياة المشتركة، وترى في صيانته نوعًا من الوفاء للأجيال. وتتقدم هنا فكرة بسيطة وعميقة: الماء إرثٌ تُسلّمه جيلٌ إلى جيل، وحين يضعف الوفاء يختلّ التسليم، وتضيق مساحة الأمل.
يُفتح باب السياسة العامة من هذه الفكرة نفسها. فتقنيات التحلية، ومشاريع النقل، وتطوير السدود والحفائر، وإعادة الاستخدام، وتحديث شبكات التوزيع، كلها تسكن في النهاية داخل إطار واحد: إطار العدالة والكفاءة والشفافية. ويمنح الأردن، بحكم تجربته، درسًا يستحق أن يُكتب في الصحافة كما يُكتب في قاعات الجامعة: درس تحويل الأزمة إلى مدرسة، وتحويل الندرة إلى عقلٍ ابتكاري، وتحويل الحاجة إلى ثقافة تعاون. وتتطلب هذه المدرسة خطابًا صريحًا يربط الماء بالأمن الاجتماعي والغذائي، ويُدرّب الناس على أن الترشيد قوة حضارية، وأن حماية المصادر شكلٌ من أشكال الوطنية اليومية.
ويذكّر الماء بأن الحضارة تبدأ من تدبير الموارد، وأن الكرامة تتجلى في إدارة الحقّ العام، وأن الوطن يُقرأ في طريقة صيانة ما يضمن الحياة. ويطلب منّا أن ننقل علاقتنا به من العادة إلى الوعي، ومن الاستهلاك إلى الرعاية، ومن الشكوى إلى الفعل. وحين يحدث ذلك، يغدو الماء معيارًا يُقاس به ضمير المجتمع، ويغدو وعدًا بأن المستقبل يُبنى بقطرةٍ مصونة كما يُبنى بفكرةٍ مستقيمة.