بين السقوط والنهضة: العرب في امتحان الوجود
كابتن أسامة شقمان
29-12-2025 01:42 PM
يشهد العالم العربي في المرحلة الممتدة بين 2023 و2026 تحوّلات غير مسبوقة، لا باعتبارها سلسلة أزمات منفصلة، بل كـ بنية تاريخية مكتملة العناصر تشكل ما يمكن تسميته بـ الامتحان الوجودي العربي. هذا الامتحان لا يقتصر على نتائج سياسية آنية أو اضطرابات أمنية ظرفية، بل يطال الأسس العميقة للعقد الاجتماعي، وبنية الدولة الوطنية، ووظيفة السلطة، وموقع الشعوب، وعلاقة المنطقة بالنظام الدولي.
إن ما نراه ليس مجرد انهيار متفرق، بل عملية إعادة تشكيل قاسية تنتج واقعًا جديدًا، يتأرجح بين احتمالين متعاكسين: السقوط إلى قاع التفكك أو النهوض باتجاه مشروع نهضة متعددة المستويات.
تستند هذه الدراسة إلى فرضية أن ما يحدث ليس فوضى عشوائية، بل مرحلة انتقالية تاريخية شديدة الازدحام بالعوامل، يمكن قراءتها وفق ثلاثة مستويات مترابطة:
1- المستوى البنيوي الداخلي: انكشاف هشاشة الدولة الوطنية بعد عقود من مركزية السلطة وإقصاء المجتمع.
2- المستوى الإقليمي: تشظّي القرار العربي بين محاور متنافسة بدل مشروع مشترك.
3- المستوى الدولي: تحوّل الشرق الأوسط من منطقة نفوذ ثابت إلى ساحة إعادة توزيع للمصالح بين القوى الكبرى.
وعليه، فالمنطقة لا تقف أمام أزمة سياسية مؤقتة، بل أمام سؤال مصيري:
هل نحن أمام نهاية مرحلة تاريخية أم بداية أخرى؟ وهل سيمتلك العرب أدوات الفعل قبل أن يفقدوا أدوات الوجود؟
1- منطق التحليل: بين "الاحتراق" و"الولادة"
في العلوم السياسية، لا يُقاس التحول التاريخي بنتائج فورية، بل بترتيب العوامل التي تتجمع مثل حلقات متداخلة. من هنا يَظهر مفهوم الاحتراق السياسي (Political Burning) باعتباره مرحلة انهيار البنى التقليدية للدولة، مقابل مفهوم الولادة التاريخية (Historical Rebirth) بوصفه محاولة لإعادة بناء مشروع الدولة على أسس جديدة.
يتحرك العالم العربي اليوم بين هذين القطبين:
- الاحتراق كواقع معاش (نزاعات، انهيارات، تفكك سلطوي)
- الولادة كاحتمال معلق (إعادة تعريف الهوية، السيادة، الأمن، والعلاقة مع العالم)
وهذا التردد بين قطبين لا ينتج خطًا مستقيمًا، بل مسارًا متعرجًا، يجعل من 2026 نقطة اختبار لإعادة صياغة موقع العرب في النظام الدولي الصاعد.
2- الخلفية التاريخية للمرحلة الراهنة
لا يمكن فهم اللحظة العربية الحالية دون ربطها بتراكم تاريخي بدأ مع:
- الاستقلالات العربية المتعجلة منتصف القرن العشرين
- اقتصاد ريعي بلا مشروع تنموي
- نخب حاكمة تعلو على الدولة نفسها
- توازنات الحرب الباردة التي أعادت تشكيل الخرائط
- زلزال 2011 الذي فتح المجال أمام انهيار النموذج السياسي القديم
- حروب الوكالة وصراعات المحاور التي ملأت الفراغ بعد غياب المشروع الجامع
هذه الخطوط ليست مجرد أحداث، بل مقدمات لنموذج زمني جديد تنهار فيه وظائف الدولة التقليدية (الأمن، التعليم، الرعاية، السيادة) دون وجود نموذج بديل جاهز، مما جعل المنطقة منطقة اختبار عالمي لا مجرد ضحية له.
3- إشكالية اللغة العربية السياسية
أحد أخطر مظاهر الأزمة أن الخطاب السياسي العربي يعيش في مسافة لغوية مضلِّلة:
- مصطلحات كـ الشرعية، المقاومة، الدولة، الأمن القومي تُستخدم بلا تعريف موحد.
- تتوارث الحكومات والشعوب قاموسًا من الشعارات التي لا تشكل سياسات.
- يتحول الواقع إلى "بيانات" والخسائر إلى "مواقف" والقرارات إلى "تصريحات".
هنا تتجلى المفارقة:
لا أزمة في اللغة فحسب، بل في القدرة على تحويل اللغة إلى فعل سياسي منتج.
4- موقع فلسطين في بنية الامتحان الوجودي
ليس من قبيل الترتيب العابر أن تبدأ هذه الدراسة من فلسطين، وغزة تحديدًا.
ذلك لأن فلسطين ليست حدثًا منفصلاً، بل مركزًا كاشفًا لبنية النظام الدولي. فالحرب على غزة لا تختبر فلسطين وحدها، بل تختبر:
- أخلاق الغرب
- صلاحية القانون الدولي
- صدقية الخطاب العربي
- قدرة النظام الإقليمي على حماية الذات
ولذلك، فإن فلسطين ليست ملفًا، بل مرآة. وكل قراءة للواقع العربي تتجاهلها ناقصة منهجيًا وعمياء تحليليًا.
5- إعادة تعريف السؤال المركزي
السؤال لم يعد: لماذا وصل العرب إلى هنا؟
هذا سؤال تاريخي قد تمت الإجابة عنه مرارًا.
السؤال الحقيقي اليوم هو:
ما الذي يجب أن يتغير في بنية الدولة، والعقد الاجتماعي، والقرار السياسي، كي لا يعيد التاريخ إنتاج الكارثة نفسها كل عشر سنوات؟
هذا البحث لا يسعى إلى تقديم إجابات نهائية، بل إلى طرح الأسئلة الصحيحة قبل الانخراط في وهم الحلول السريعة.
6- فرضية الانتقال
تقوم الدراسة على فرضية أساسية:
العالم العربي لا ينهار بالكامل، ولا ينهض بالكامل، بل يتحرك داخل منطقة انتقالية رمادية؛ من يقرأها بوعي سيولد من جديد، ومن يهملها سيسقط خارج التاريخ.
الخلاصة التأسيسية للمقدمة
نحن أمام مرحلة لا تُقرأ بالأمنيات أو العاطفة أو البيانات، بل بالأرقام والخرائط والوعي.
وإذا كان العنوان "بين السقوط والنهضة" يبدو عنوانًا دراميًا، فإنه في الحقيقة تشخيص علمي لحالة انتقالية غير مستقرة، يواجه فيها العرب امتحان وجود لا امتحان نفوذ.
هذه الورقة/البحث ليست رواية عن الألم العربي، بل دعوة لاستعادة القدرة على الفعل.
فالنهضة ليست حلمًا… بل قرارًا.
1- غزة: الجرح الذي يفضح المنظومة الدولية
تُعدّ غزة اليوم اللقاء الأكثر وضوحًا بين السياسة والحرمان الأخلاقي في السياق العربي الحديث؛ فقد تحولت من مدينة مُكبوتة تحت الاحتلال إلى ساحة مفتوحة للانتهاكات الإنسانية والسياسية التي تُحدّد مستقبل المنطقة، وتكشف عن هشاشة النظام الدولي في حماية حقوق الشعوب. في هذه الفقرة، سنحلّل غزة ليس كــ"حدث" منفصل فحسب، بل كـ"نقطة مركزية" لفهم التحولات الإقليمية والدولية، وموضع اختبار حيّ لـاهداف ومبادئ القانون الدولي وفعالية المنظومات الإنسانية.
أ. العمق الإنساني والبيانات الميدانية
منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، شهد القطاع أحد أشرس النزاعات في التاريخ المعاصر من حيث الأثر المدني الإنساني. البيانات الرسمية - رغم صعوبات التحقق في ظروف النزاع - تشير إلى أعداد ضخمة من الضحايا المدنيين:
- تقارير صحية محلية وأمم متحدة تُقدّر أن عشرات آلاف الفلسطينيين قُتلوا وأصيبوا بحلول منتصف عام 2025، بما في ذلك أعداد كبيرة من النساء والأطفال.
- تحليل شامل لأرقام وزارة الصحة في غزة يشير إلى أن أكثر من 70,000 شخص قُتلوا وأن نحو 169,000 آخرين أصيبوا بحلول أكتوبر 2025 منذ بداية الحرب.
- منظمة الأمم المتحدة ومنظمات أخرى رصدت مستويات تفكك للبنية الاجتماعية والخدمات العامة، مع نقص حاد في الغذاء والماء والرعاية الصحية، ومخاطر مستمرة على الحياة اليومية لسكان القطاع.
هذه الأرقام هي أكثر من إحصاءات تُقرأ في شكل جداول؛ فهي تعكس حجم التفكك المجتمعي الذي يتجاوز الكارثة إلى مستوى تآكل بنيوي في المجتمع نفسه. فحين يختفي النظام الصحي والبيئة التعليمية ويصبح الوصول إلى الغذاء والمأوى معركة يومية، يفقد المجتمع القدرة على الحفاظ على وجوده الاجتماعي والثقافي.
ب. التدمير الهيكلي والاجتماعي
أثر النزاع لم يتوقف عند الخسائر البشرية فقط؛ بل امتد ليشمل نسيج الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبنائية في غزة.
- مدارس ومرافق تعليمية تعرضت للتدمير، مما يخلق جيلًا بخطر فقدان التعليم المنتظم تمامًا نتيجة الحرب وسقوط المنشآت التعليمية.
- الكوارث الطبيعية، مثل هطول الأمطار الشتوية، قلبت المخيمات والملاجئ إلى أماكن خطرة على الحياة الإنسانية، ما زاد من معاناة السكان في ظل بنية تحتية هشة.
- البنية التحتية الصحية والتعليمية والثقافية ازدادت انهيارًا مع تزايد الضغط الحياتي، مما يفضي إلى خسائر في الذاكرة الثقافية والهوية الجمعية للسكان.
بالتالي، لم تعد الحرب في غزة مجرد سلسلة من الاشتباكات العسكرية، بل عملية تدمير شامل تضرب الأساس المجتمعي الذي يبني الحياة اليومية، وتمنع التعافي الطبيعي في كل بعد إنساني.
ج. الفقر والحصار وفقدان القدرة على البقاء
بعد سنوات من الحصار المستمر والسياسات التي قيدت الحركة والوصول إلى الموارد الأساسية، واجه سكان غزة معدلات حادة من الجوع والفقر.
وفق بيانات تقارير التصنيف الغذائي، فقد وصل الوضع في فترات معينة إلى مستويات تُصنّف جيمًا "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي، مع اعتماد كامل للسكان تقريبًا على المساعدات الخارجية بعد أن دُمّرت وسائل الإنتاج المحلية.
هذه الظروف لا تعكس فقط الحرب كعمل عسكري: بل تُظهر استخدام السياسات الاقتصادية كأداة قسرية تُمكن من فرض سيطرة أكبر على السكان عبر التحكم في وصول الغذاء والماء والخدمات.
د. القانون الدولي واتهامات بانتهاكات جسيمة
المشهد في غزة أثار تساؤلات جدّية حول التزام القانون الدولي الإنساني.
تقارير مستقلة للأمم المتحدة خلُصت إلى أن الأفعال التي ارتُكبت في غزة قد ترتّب عليها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، بما في ذلك أفعال يمكن اعتبارها جرائم حرب أو ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
في الوقت نفسه، ظهرت ردود فعل مضادة من بعض الجهات القانونية والسياسية التي تنتقد هذه التوصيفات، معتبرة أن التقارير تعتمد على معطيات غير متوازنة أو تُسيّس العملية القانونية.
هذه التناقضات بين التقييمات القانونية تظهر انقسامات في النظام الدولي نفسه حول كيفية التعامل مع ما يحدث في غزة. كما تُبرز محدودية الأجهزة الدولية في فرض تنفيذ التوصيات أو قرارات المحاكم الدولية، خاصة عندما تتصادم مع المصالح الجيوسياسية الكبرى.
ه. غزة كاختبار أخلاقي عالمي
قد تكون غزة في 2025 أكثر من مجرد ساحة نزاع محلية؛ بل فضيحة أخلاقية أمام الضمير الدولي.
بينما تُصرّ بعض الحكومات على وصف ما يجري بعبارات قانونية مضبوطة أو على أنها عمليات تهدف إلى "أهداف أمنية"، تُجهر منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية في تقاريرها بأن ما يحدث يرقى إلى انتهاكات متسقة وواسعة النطاق بحق السكان المدنيين في غزة.
وبينما تتظاهر شعوب في العديد من العواصم الغربية تضامنًا مع المدنيين الفلسطينيين، فإن السياسات الرسمية للحكومات غالبًا ما تبقى محكومة بقيود المصالح الجيوسياسية والتحالفات الاستراتيجية، بدل الالتزام الصارم بمبادئ القانون الدولي والإنساني.
و. الانطباع العام والنتائج الفرعية
تحليل الواقع في غزة يشير إلى عدة نتائج مفصلية يمكن ربطها بمحور البحث العام:
- غزة ليست فقط نزاعًا مسلحًا، بل اختبارًا لبنية القانون الدولي:
هي منصة لرصد فعالية المنظومة الدولية في حماية حقوق المدنيين خلال النزاعات المسلحة.
- العدوان والتدمير البنيوي أسفرا عن فقدان موارد الحياة الأساسية:
الصحة، الغذاء، الماء، التعليم، والثقافة كلها لفقدان الوظائف الحيوية لمجتمعٍ كامل.
- الخلافات الدولية حول تفسير ما يحدث تظهر انقسامًا أعمق في النظام الدولي:
بين المبادئ والقوة، وبين السياسة والقانون، ما يجعل غزة ليست فقط ساحة حرب بل ميدان صراع حول المعنى الأخلاقي للسيادة والهوية الدولية.
خاتمة تحليلية للفقرة
غزة بهذا المعنى تتجاوز كونها "قضية فلسطينية" إلى أن تكون مؤشرًا مركزيًا في فهم ما إذا كان العالم العربي قادرًا على إعادة تأسيس دوره كفاعل في التاريخ، وليس مجرد ساحة انتظار لموازين القوى الخارجية.
إنها ليست مأساة محلية فحسب، بل اختبار لمدى قدرة المجتمع الدولي والنظام العربي نفسه على مواجهة واقع إنساني يتحدى الأعراف القانونية والسياسية، ويمحو ببطء ما تبقى من البنى المجتمعية الأساسية.
2- الضفة الغربية… زمن ممتد تحت الاحتلال
تُعد الضفة الغربية واحدة من أكثر البيئات السياسية والإنسانية تعقيدًا في النزاع العربي–الإسرائيلي، فهي ليست ساحة صراع عابرة، بل هيكلية احتلال متواصلة منذ أكثر من نصف قرن. في هذا التحليل الأكاديمي، سنتناول الضفة كمثال مركزي على كيفية ترسيخ احتلال طويل الأمد هو امتداد للسياسات الاستعمارية الحديثة التي لا تقتصر على السيطرة العسكرية، بل تشمل الاستيطان والتحكم الديمغرافي وتقييد الحركة وفرض السيطرة على الأرض والموارد، مما يجعل من الضفة نموذجًا مرتبطًا بشكل وثيق بمدى قدرة الفلسطينيين على ممارسة حقهم في تقرير المصير.
أ. الإطار التاريخي والسياسي للاحتلال
منذ عام 1967، بعد حرب الأيام الستة التي شهدت احتلال إسرائيل للضفة الغربية وشرقي القدس، باتت الضفة تحت إدارة عسكرية مباشرة تُعرَّف في القانون الدولي بأنها احتلال — وهو وضع اعتبرته المحاكم الدولية إطالة غير قانونية للسيطرة على شعب آخر.
الاحتلال هنا لا يقتصر على وجود قوات عسكرية؛ بل يشمل أيضًا هيمنة سياسية كاملة على الموارد والمياه والأراضي، مع فرض نظام إداري وأمني معقد يعتمد على القيود والمراقبة، وهي حالة أعمق وأطول من أي احتلال مماثل في التاريخ الحديث.
وقد تم تصميم نظام السيطرة هذا ليكون دائمًا وليس مؤقّتًا، إذ لم تعُد الضفة مجرد "أرض محتلة" تنتظر تسوية، بل صارت بنية مهيكلة للتحكم الديمغرافي وتجزئة الأراضي والسيطرة على الموارد الطبيعية والفعل الاجتماعي.
ب. الاستيطان: أداة لتحويل الاحتلال إلى واقع دائم
الاستيطان في الضفة الغربية يُمثّل أحد أبرز ملامح هذا النظام. فبينما تعد جميع المستوطنات في الأراضي المحتلة غير قانونية بموجب القانون الدولي، فإن عددها ووتيرة توسّعها قد تصاعد بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في ظل الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية التي أضفت دعمًا رسميًا على مشاريع الاستيطان.
في عام 2025 وحده، تمت الموافقة على بناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية الاستيطانية، وهو رقم قياسي يعكس تسارعًا في توسيع المستوطنات على الأرض، بهدف خلق وقائع ديموغرافية وسياسية تعمّق الانقسام الجغرافي والديمغرافي.
يُظهر ذلك أن الاستيطان لم يعد مجرد "سياسة إسكان" بل تحول إلى أداة استراتيجية لإعادة رسم الواقع السياسي والحدودي في الضفة، إذ تُحاط المستوطنات بمناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية، وتُجزّأ الضفة إلى جيوب منعزلة لا يمكن أن تشكل في مجموعها دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ج. عنف المستوطنين وسياسة الأرض المهيمنة
لم يتوقف الاحتلال عند بناء المستوطنات فقط؛ بل تعداه إلى عنف مستوطنين ممنهج بتواطؤ أو حماية ضمنية من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وفق تقارير الأمم المتحدة، وصل عدد الهجمات التي ينفذها المستوطنون ضد الفلسطينيين إلى مستويات قياسية في 2025، بمتوسط يومي يشير إلى استمرار دورة العنف اليومية، ما يزيد من حالة التوتر الاجتماعي ويعرقل الحياة الطبيعية للسكان.
بحسب بيانات الأمم المتحدة، تم توثيق مئات الهجمات خلال أشهر محددة، مع تسجيل إصابات وخسائر مادية واجتماعية واسعة، فيما لا تُحال إلا نسبة ضئيلة من هذه الحالات إلى المحاكمة أو المساءلة.
هذه الظاهرة لا تُظهر فقط غياب سيادة القانون والحماية للفلسطينيين، بل تُبرز أيضًا وجودًا مؤسسيًا لعنف غير معاقب، ما يجعل من الضفة مساحة لا تعرف الاستقرار الاجتماعي أو الاقتصادي، بل تشهد ترسيخًا للممارسات القهرية كأسلوب يومي للحياة.
د. قيود الحركة والاقتصاد المتضعضع
جزء آخر من بنية السيطرة على الضفة الغربية يكمن في قيود الحركة والوصول التي تُفرض على الفلسطينيين، ما يعوق الاقتصاد والحياة اليومية ويعمّق التبعية. ففي الضفة، تقع عشرات الحواجز والمعابر التي تقيّد حرية التنقل بين المدن والقرى، وقد وصل عدد العوائق والعقبات على الطرق الرئيسية إلى مئات، بعضها دائم، وبعضها يظهر بشكل مفاجئ، مما يعيق العمل والتعليم والوصول إلى الخدمات الأساسية.
هذه القيود لا تؤثر فقط على حرية الحركة، بل تمس بشكل مباشر الحق في العمل والزراعة والتعليم والرعاية الصحية، وهو ما يجعل الحياة الاقتصادية صعبة للغاية، ويُزيد من معدلات الفقر والبطالة، ويُضعف البنية المجتمعية للمعيشة المستقلة.
هـ. التغير الديمغرافي والسيطرة على الأرض
وفق بيانات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، يعيش في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين في مستوطنات معترف بها أو غير معترف بها ضمن القانون الدولي، في حين يتعرض الفلسطينيون لهجمات وإجراءات تقيّد حقوقهم.
الوجود الاستيطاني المتزايد يُشكّل تهديدًا مباشرًا لمبدأ تقرير المصير، لأنه لا يقتصر على البناء السكني فقط، بل على الهيمنة على المزارع والمياه والمسارات والطرق الحيوية، ما يقلّص المساحات الفلسطينية إلى كيانات متفرّقة ومعزولة.
علاوة على ذلك، هناك مشاريع مثل مخطط E1 الذي يسعى لربط المستوطنات الكبرى بالقدس، ما يؤدي إلى قطع التواصل الجغرافي بين أجزاء الضفة ويضعف أية فرصة واقعية لإنشاء دولة فلسطينية متواصلة جغرافيًا.
و. الانتهاكات القانونية وإنهاء أفق التسوية
على الصعيد القانوني الدولي، تعتبر معظم السياسات الاستيطانية انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة، ومنها قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي يدعو إلى وقف جميع الأنشطة الاستيطانية.
وفي الواقع، فإن استمرار هذه العمليات يُظهر فشل آليات القانون الدولي في ضمان التنفيذ أو المساءلة، ما يطرح سؤالًا أوسع حول قدرة المجتمع الدولي على فرض احترام حقوق الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال، خصوصًا في ظل ازدواجية التطبيق والمعايير.
ز. الضفة الغربية كصورة للمنعطف العربي
من منظور أوسع، تُعد الضفة الغربية نموذجًا محوريًا لفهم محدودية الحلول السياسية التقليدية في المنطقة. فالتفاوض على الأرض والحقوق لم يحدّ من التوسع الاستيطاني ولا من تدهور حياة الفلسطينيين، بل يبدو أن خطاب التسوية غالبًا ما كان فضفاضًا ويوفر مجالًا لاستمرار الهيمنة بدل قمعها.
في هذا السياق، تُظهر الضفة الغربية بأن الكثير من السياسات التي تُطرح كحلول سياسية تبقى تنفيذًا شكليًا للاتفاقيات بينما الواقع على الأرض يزداد تشدّدًا نحو المزيد من السيطرة والتهويد، ما يضع العالم العربي أمام تحدّي تحوّل الاحتلال من حالة مؤقّتة إلى بنية دائمة.
خلاصة تحليلية للفقرة
تكشف الضفة الغربية عن أن الاحتلال لا يمكن اختزاله في مواجهة عسكرية قصيرة الأمد، بل هو نظام معقد من التحكم الديمغرافي والسياسي والاجتماعي والقانوني، يسعى لتغيير الحقائق على الأرض بطرق ممنهجة تشمل الاستيطان، عنف المستوطنين، قيود الحركة، والتوسع في السيطرة على الأرض والموارد. التعامل مع هذه البنية يتطلب قراءة سياسية شاملة تتجاوز الجدل حول الحقوق والواجبات القانونية إلى تحليل بنيوي للسيادة والتحكّم في الزمن والمصير.
3- لبنان… بين سلاح الداخل وحدود الجنوب
يشكّل لبنان حالة مركّبة في المشهد العربي المعاصر، تتقاطع فيها الأزمة الاقتصادية - المالية غير المسبوقة مع الانقسام السياسي المزمن ووجود فاعل مسلح غير دولتي يمتلك قدرات تفوق أحيانًا قدرات الدولة نفسها. ومن هنا، لا يمكن مقاربة الحالة اللبنانية بوصفها أزمة دولة ضعيفة فحسب، بل بوصفها مثالًا مكثفًا على تآكل مفهوم السيادة الحديثة في فضاء عربي مأزوم؛ حيث تتعايش على الأرض سلطات متوازية: دولة رسمية عاجزة، وقوة مسلّحة مرتبطة بمحور إقليمي، وضغوط دولية وأمنية ترتبط بالحدود الجنوبية مع إسرائيل.
أولًا: دولة على حافة الانهيار البنيوي
منذ انفجار الأزمة المالية عام 2019، دخل لبنان في مسار انهيار اقتصادي وصفه البنك الدولي بأنه من بين أسوأ ثلاث أزمات مالية على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. الانكماش الحاد في الناتج المحلي، والانهيار الهائل في سعر صرف العملة، وما تلاه من تضخم مفرط، أدى إلى تآكل القوة الشرائية لأغلبية اللبنانيين. تقارير البنك الدولي ومنظمات دولية تشير إلى أن الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل عقد، ليصل إلى حوالي 44% من السكان في عام 2022، مع تفاوتات حادة بين المناطق، ومع استمرار التدهور لاحقًا.
وتضيف دراسات أخرى أن الانهيار الطاقي – لا سيما أزمة الكهرباء – عمّق من الفقر الطاقي؛ إذ أظهرت دراسة أكاديمية أن نحو 36% من الأسر اللبنانية تعاني من فقر طاقي حاد، وأن 78% من الأسر غير قادرة على الحفاظ على منازلها دافئة، ما يحوّل الخدمات الأساسية إلى رفاهية.
في عام 2025، ما تزال نتائج هذا الانهيار تتجلى في واقع معيشي قاسٍ: الأمم المتحدة تقدّر أن أكثر من 55% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، مع توفر الكهرباء لساعات قليلة يوميًا واعتماد شبه كامل على المولدات الخاصة، وانهيار قيمة الرواتب، واستمرار موجات الهجرة خصوصًا بين الكفاءات وأصحاب المهن.
بهذا المعنى، لم تعد الأزمة الاقتصادية مجرد خلل في السياسات المالية والنقدية، بل تحوّلت إلى انهيار في العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن؛ إذ لم تعد الدولة قادرة على أداء وظائفها الأساسية، بينما يتنامى شعور عام بأن المنظومة السياسية–المالية المتحكمة ترفض تحمّل المسؤولية أو الدفع نحو إصلاح حقيقي.
ثانيًا: رئاسة جديدة فوق ركام نظام قديم
سياسيًا، عاش لبنان فراغًا رئاسيًا طويلًا استمر لأكثر من عامين بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق في أكتوبر 2022، نتيجة الانقسام الحاد بين الكتل النيابية، وتداخل الحسابات الداخلية بالتجاذبات الإقليمية.
في يناير 2025، انتُخب قائد الجيش، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، منهياً حالة الفراغ الشللّي، بعد سلسلة جلسات فاشلة ومحاولات تسوية متعاقبة. هذا الانتخاب انعقدت عليه آمال داخلية وخارجية بأن يشكل مدخلًا لإعادة بناء مؤسسات الدولة وفتح الباب أمام إصلاحات تُرضي الشارع اللبناني من جهة، والمؤسسات الدولية - وعلى رأسها صندوق النقد الدولي - من جهة أخرى.
لكن هذه الآمال تصطدم ببنية نظام سياسي طائفي–محاصصي متجذّر، جعل من كل استحقاق رئاسي أو حكومي حقل اختبار لميزان القوى الداخلي والإقليمي. وهكذا، تحوّل انتخاب الرئيس إلى خطوة مهمة لكنها غير كافية بذاتها ما لم تُستتبع بإصلاحات هيكلية في النظام المالي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومعالجة مسألة الودائع المجمدة، وهي ملفات ما زالت تدور في حلقة مفرغة بين الحكومة والبرلمان والنخب المالية.
في نهاية 2025، أقرّت الحكومة مشروع «قانون الفجوة المالية» لمعالجة الخسائر المقدرة بنحو 70 مليار دولار وتوزيعها بين الدولة والبنك المركزي والمصارف والمودعين، في خطوة مرتبطة بشروط صندوق النقد الدولي. غير أن القانون أثار جدلًا حادًا واعتراضات من المصارف وجمعيات المودعين، وسط مخاوف من تحميل صغار المودعين الجزء الأكبر من الكلفة، ما يعمّق انعدام الثقة بين المجتمع والنظام المالي.
هكذا يجد لبنان نفسه أمام مفارقة سياسية - اقتصادية: رئاسة منتخبة وحكومة ترفع لواء الإصلاح، لكن شبكة المصالح العميقة التي راكمتها عقود من المحاصصة تهدد بإفراغ الإصلاح من مضمونه، لتبقى الدولة في حالة "إدارة أزمة" لا في سياق "إعادة بناء".
ثالثًا: حزب الله… بين خطاب المقاومة ومعادلة الدولة
لا يمكن مقاربة الحالة اللبنانية من دون التوقف مطولًا عند حزب الله، الفاعل المسلّح الأكثر تأثيرًا على مسار الدولة وحدودها. الحزب الذي نشأ في سياق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الثمانينيات، تطوّر إلى قوة عسكرية وسياسية كبرى، يمتلك ترسانة صاروخية معتبرة، ويحظى بدعم إقليمي واضح، خصوصًا من إيران، ويمثل أحد أهم أذرع ما يُسمى «محور المقاومة» في المنطقة.
إشكالية حزب الله في السياق اللبناني لا تتعلق فقط بامتلاكه السلاح خارج إطار الدولة، بل بكونه يحتل موقعًا مزدوجًا:
- شريك في السلطة التنفيذية والتشريعية (عبر الحكومة والبرلمان)
- وفاعل عسكري مستقل يحتفظ بقرار الحرب والسلم على الجبهة الجنوبية، وشارك في صراعات خارجية (سوريا وغيرها).
هذا الوضع يخلق معضلة سيادية حادة:
هل يمكن لدولة أن تدير سياستها الخارجية والدفاعية في ظل وجود قوة عسكرية داخلها لا تخضع بالكامل لمؤسساتها الشرعية، بل لخط استراتيجي إقليمي أوسع؟
من جهة، يرى جزء من اللبنانيين والعرب أن سلاح حزب الله شكّل عامل ردع ضد إسرائيل وغطاءً للمقاومة في فترات معينة، ومن جهة أخرى، يرى آخرون أن هذا السلاح تحوّل إلى أداة ضغط داخلية تُستخدم في الصراعات السياسية الداخلية، وتربط مستقبل لبنان بحسابات إقليمية أكبر من حجمه، بما فيها المواجهة مع إسرائيل والملف النووي الإيراني.
رابعًا: الحدود الجنوبية… جبهة معلّقة على خيط رفيع
منذ حرب تموز 2006، عاشت الحدود الجنوبية بين لبنان وإسرائيل حالة من "اللاحرب - اللاسلم"، مع خروقات متقطعة. لكن في أعقاب حرب غزة 2023، وبدء الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل على طول الحدود، دخل المشهد طورًا جديدًا أكثر خطورة.
شهد عام 2024 تصعيدًا وصل إلى حد اجتياح إسرائيلي جديد لجنوب لبنان في أكتوبر 2024، تلاه اتفاق وقف إطلاق نار في نوفمبر من العام نفسه بوساطة دولية، مع ترتيبات تقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية وبسط الجيش اللبناني واليونيفيل سلطتهما جنوب نهر الليطاني.
إلا أن العام 2025 شهد استمرارًا للخروقات الإسرائيلية، سواء عبر غارات جوية أو ضربات مسيّرة استهدفت مواقع يشتبه بأنها تابعة لحزب الله في الجنوب، في وقت تتحدث تقارير غربية عن خطة أوسع للضغط باتجاه نزع سلاح الحزب جنوب الليطاني وربما أبعد من ذلك.
في المقابل، يعتبر حزب الله أن أي خطة لنزع سلاحه هي جزء من "مشروع أميركي - إسرائيلي" يستهدف دوره في المعادلة الإقليمية، ويصرّ على أن سلاحه عنصر توازن في مواجهة "التهديد الإسرائيلي".
هذه المعادلة تجعل الجنوب اللبناني جبهة مؤجلة الانفجار، يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي:
- إسرائيل تسعى إلى إزالة التهديد الصاروخي من حدودها الشمالية.
- الولايات المتحدة وأوروبا تضغطان باتجاه تهدئة دائمة وحلول أمنية جديدة.
- لبنان الرسمي يحاول تجنب حرب شاملة تفوق قدرته، بينما لا يمتلك السيطرة الكاملة على قرار السلاح.
النتيجة أن الجنوب يتحول إلى ساحة تفاوض بالنار، كل جولة فيها تذكير بأن لبنان محكوم بجبهة لا يغلقها قرار داخلي فقط، بل جدول أعمال إقليمي واسع.
خامسًا: لبنان كمرآة لأزمة الدولة العربية
في ضوء ما سبق، يمكن النظر إلى لبنان كـ مرآة مكبرة لأزمة الدولة في المنطقة العربية:
- دولة ذات نظام سياسي طائفي - محاصصي، عاجزة عن إنتاج قرار وطني جامع.
- اقتصاد منهار مرتبط بنخبة مالية - سياسية متشابكة المصالح.
- فاعل مسلّح داخلي مرتبط بمحور إقليمي، يمتلك قدرة على تعطيل أو فرض خيارات استراتيجية.
- حدود متوترة مع عدو خارجي، تجعل البلد ساحةً دائمة لاحتمالات الحرب.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة لبنان كحالة شاذّة؛ بل كـ نموذج متطرف لما قد تؤول إليه دول أخرى إذا استمرت البُنى السياسية على ما هي عليه:
دولة رسمية ترفع شعار السيادة، لكنها تتقاسم عمليًا سلطتها مع قوى السلاح والمال والمحاور.
خلاصة الفقرة
لبنان اليوم، بحق، دولة تؤجل انهيارها أكثر مما تعالجه.
وإذا كانت رئاسته الجديدة ومحاولاته للتفاهم مع صندوق النقد والإصلاح المالي خطوات ضرورية، فإنها غير كافية من دون معالجة جذور المشكلة:
- استعادة الدولة لقرارها السيادي
- تفكيك بنية المحاصصة الطائفية
- ودمج كل عناصر القوة – بما فيها السلاح – ضمن مشروع وطني جامع لا ضمن اصطفاف محوري خارجي.
في السياق الأوسع للبحث، يمثل لبنان "الحالة الحدّية" التي تقف عندها أسئلة العرب الكبرى:
كيف يمكن لدولة أن تنجو عندما تنقسم سيادتها بين الداخل والخارج، وبين السلاح والمال، وبين الحدود الجنوبية وغرف القرار الإقليمي؟
4- سوريا… دولة معلّقة بين حربين
تقدّم سوريا اليوم واحدًا من أكثر النماذج تعقيدًا في العالم العربي؛ نموذج دولة لم تخرج من الحرب، بل خرجت من “شكلٍ” من أشكالها إلى شكلٍ آخر. فبعد أكثر من عقد من الصراع المسلح، والدمار الممنهج، والتدخلات الإقليمية والدولية، جاء سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 لا باعتباره نهاية الحرب، بل بداية مرحلة جديدة من الصراع على تعريف الدولة نفسها: من يحكمها؟ وكيف تُدار؟ ولصالح أي مشروع تُعاد صياغة الجغرافيا والسلطة؟
من هنا، تصبح سوريا في منتصف العشرينيات من هذا القرن دولة معلّقة بين حربين:
- حرب أولى دمّرت البنية التحتية والديمغرافيا والاقتصاد، وأسقطت نظامًا حكم لأكثر من نصف قرن.
- وحرب ثانية لم تُعلن رسميًا بعد، لكنها تتجلى في تنافس قوى داخلية وخارجية، وصراعات على مناطق النفوذ، واستمرار الضربات الإسرائيلية، والتوترات التركية–الكردية، وتداعيات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
أولًا: سقوط النظام… نهاية فصل لا نهاية حرب
بسقوط نظام الأسد أواخر 2024 على يد تحالف تقوده هيئة تحرير الشام (هيئة ذات جذور جهادية معروفة) بزعامة أحمد الشَرع (أبو محمد الجولاني سابقًا)، دخلت سوريا مرحلة انتقالية جديدة، لكنها انتقالية بلا توافق وطني جامع. تقارير رسمية دولية، مثل مذكّرات حكومية بريطانية وقراءات لمراكز أبحاث، تؤكد أن النظام الجديد أصبح يحمل بصمة إسلامية متشددة في بنيته القيادية، مع استمرار تشظي السيطرة الفعلية بين فصائل مسلحة وقوى محلية وإقليمية.
ورغم الحديث الدولي عن «فرصة تاريخية» لإطلاق انتقال سياسي أوسع، ظلت الهياكل العميقة للصراع قائمة:
- انقسام جغرافي بين الشمال الشرقي الواقع تحت نفوذ قوات سوريا الديموقراطية (قسد) والتحالف الدولي، والمناطق الشمالية الغربية ذات الحضور التركي والفصائل المعارضة، والجنوب المتوتر بالقرب من حدود الجولان، والمركز الذي تحاول الحكومة الجديدة تثبيت سيطرتها عليه.
- استمرار التدخلات الدولية، حيث لم يؤدِّ سقوط النظام السابق إلى انسحاب القوى الخارجية، بل إلى إعادة توزيع النفوذ بينها.
بهذا المعنى، فإن سقوط الأسد لم يُنتج دولة جديدة بقدر ما فتح الباب أمام صراع على الدولة.
ثانيًا: اقتصاد في حالة انهيار مستمر
تصف تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي الاقتصاد السوري بأنه في حالة "سقوط حر". فبحسب تقرير الأمم المتحدة عن نتائج عام 2024، يعيش 90% من السوريين في حالة فقر، ويحتاج أكثر من 17 مليون شخص إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، مع بنية تحتية مدمرة وقطاعات خدماتية شبه منهارة.
تُشير تقديرات البنك الدولي وتقارير اقتصادية إلى أن:
- الناتج المحلي الحقيقي انكمش بشكل متكرر، مع توقعات بانكماش إضافي في 2024 وما بعده.
- الليرة السورية فقدت نحو ثلثي قيمتها خلال 2023 وحده، مما دفع التضخم إلى مستويات تقارب 40% في 2024، وزاد من تآكل القدرة الشرائية للسكان.
- نسبًا متصاعدة من الأسر باتت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من حاجاتها الغذائية والتعليمية والصحية، مع ارتفاع معدلات الفقر المدقع إلى أكثر من ثلث السكان في بعض التقديرات.
حتى بعد التغيير السياسي في أواخر 2024، لم يشهد الاقتصاد تحسنًا يُذكر، لأن مقومات التعافي - الاستقرار الأمني، رفع العقوبات، استقطاب الاستثمارات، إعادة الإعمار - ارتبطت مباشرة بشرعية الحكومة الجديدة ومدى قبولها دوليًا. وبما أن القيادة الجديدة مرتبطة بتاريخ تنظيمات متشددة، فإن هذا خلق ترددًا دوليًا كبيرًا في فتح قنوات دعم جاد، ما جعل سوريا عالقة في حالة "فراغ اقتصادي – سياسي" خطير:
لا نظام قديم قادر على إدارة الانهيار، ولا نظام جديد معترف به بما يكفي لإعادة البناء.
ثالثًا: اللاجئون والنازحون… عودة بلا ضمانات
جبهة أخرى تبيّن أن سوريا بين حربين هي جبهة اللاجئين والنازحين.
في 2025، تشير بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى:
- حوالي 5.9 مليون لاجئ سوري مسجّل في المنطقة (تركيا، لبنان، الأردن، العراق، مصر، وشمال أفريقيا).
- ملايين النازحين داخليًا، مع تقديرات بعودة أكثر من 1.2 مليون نازح وقرابة نصف مليون لاجئ إلى داخل سوريا منذ نهاية 2024 حتى منتصف 2025، مدفوعين بأمل التغيير، ولكن في ظل غياب ضمانات حقيقية للأمن والخدمات وفرص العيش الكريم.
هذه الأرقام تُظهر أن هناك حركة عودة ملحوظة بعد التغيير السياسي، لكنها عودة محفوفة بالمخاطر:
- بنية تحتية مدمَّرة في مناطق واسعة.
- غياب منظومة قضائية مستقرة تضمن حقوق العائدين في السكن والأملاك.
- مشكلات أمنية في مناطق عديدة نتيجة سيطرة فصائل متعددة السلاح.
هكذا، يتحول ملف العودة من علامة أمل إلى تحدٍّ جديد: كيف تُدار عودة واسعة في بلد لم تُحسم هويته السياسية ولا تماسكه المجتمعي بعد؟
رابعًا: إسرائيل وسوريا… السماء المفتوحة والحرب الجديدة
منذ سقوط النظام السابق، تحوّلت الأجواء السورية إلى ما يشبه ساحة عمليات مفتوحة أمام سلاح الجو الإسرائيلي.
تُظهر بيانات من منظمات رصد مستقلة ومنصات تحليل بيانات النزاع أن:
- عدد الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية بلغ مستويات قياسية منذ ديسمبر 2024، متجاوزًا ما سُجّل خلال 2023 بأكمله، مع تصاعد واضح في الأشهر الأولى من 2025.
- هذه الغارات لم تعد تستهدف فقط مواقع مرتبطة بإيران أو حزب الله كما كان في السنوات السابقة، بل توسعت لتشمل مواقع عسكرية سورية، وحدات دفاع جوي، ومناطق يُشتبه أنها تحت سيطرة قوى مرتبطة بالنظام الجديد أو معارضة له.
تحليل سياسي لهذه العمليات يشير إلى أن إسرائيل تسعى إلى:
1- منع تبلور أي بنية عسكرية معادية قرب حدود الجولان المحتل.
2- استثمار لحظة الانتقال السياسي في سوريا لفرض “أمر واقع أمني” طويل الأمد، يشمل عمليًا تحييد الدفاعات الجوية السورية وإنتاج واقع يجعل من الصعب إعادة بنائها.
بهذا المعنى، فإن سوريا ما بعد الأسد ليست أقل تعرضًا للانتهاك الجوي، بل أكثر، وهذا يعمّق فكرة أن سوريا انتقلت من حرب داخلية إلى حرب متعددة الطبقات يكون فيها الداخل ساحة لتصفية حسابات الخارج.
خامسًا: الشمال الشرقي… عقدة قسد وتركيا والتحالف الدولي
في الشمال الشرقي، تظل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) قائمة كلاعب رئيسي، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وتواجه ضغوطًا مكثفة من تركيا التي تصنّفها امتدادًا لتنظيمات تعتبرها إرهابية.
تشير تقارير أوروبية رسمية إلى أن:
- قسد تعرّضت لقصف متكرر من الجيش التركي خلال 2024–2025، ما جعلها في وضع دفاعي هش.
- التحالف الدولي عزز وجوده في بعض القواعد وأرسل معدات إضافية، في محاولة للحفاظ على توازن يمنع انهيار قسد بشكل كامل.
هذه المنطقة تمثل نقطة التقاء بين مصالح متعارضة:
- تركيا تريد إنهاء أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي على حدودها.
- قسد تبحث عن ضمانات سياسية وعسكرية لحماية وجودها.
- النظام الجديد في دمشق يسعى لاستعادة السيادة الشكلية على كامل الأراضي.
- الولايات المتحدة ترى في الشمال الشرقي ورقة نفوذ جيوسياسي في وجه روسيا وإيران وفي ملف الطاقة أيضًا.
هكذا يتحول الشمال الشرقي إلى مختبر لصراع الإرادات الإقليمي والدولي، ويترك علامات استفهام كبيرة على مستقبل وحدة الجغرافيا السورية.
سادسًا: بين حربين… أين تقف الدولة السورية اليوم؟
من خلال هذه العناصر المتشابكة، يتضح أن سوريا في منتصف العشرينيات ليست "ما بعد الحرب" ولا "قبل السلم"، بل دولة عالقة في منطقة رمادية بين حربين:
- حرب أولى أنهكت المجتمع والبنية التحتية، وأسقطت النظام السابق، لكنها لم تبنِ نظامًا مستقرًا.
- وحرب ثانية تتشكل عبر:
- صراع على الشرعية بين سلطات الأمر الواقع.
- تدخلات إسرائيلية وتركية وإيرانية ودولية مستمرة.
- تنازع على موارد نادرة واقتصاد يحتضر.
- توترات طائفية وإثنية تهدد بتفكك النسيج الاجتماعي.
من زاوية البحث الذي يدرس “العرب بين السقوط والنهضة”، تجسّد سوريا وجهًا صارخًا للمفارقة:
دولة تملك تاريخًا وثقلًا حضاريًا وجغرافيًا، لكنها تُعامل في النظام الدولي وكأنها مجرد «مساحة إدارة أزمة» يمكن تأجيل حسمها إلى أجل غير مسمى.
خلاصة الفقرة
سوريا اليوم ليست مجرد ملف من ملفات الشرق الأوسط، بل سؤال مفتوح عن مستقبل الدولة العربية نفسها:
هل تخرج من رحم هذه المرحلة دولة وطنية جديدة قادرة على استعادة سيادتها وبناء عقد اجتماعي جامع؟ أم أن سوريا ستتحول إلى نموذج دائم للدولة–الساحة التي تُدار فيها صراعات الآخرين؟
في سياق “امتحان الوجود العربي”، تبدو سوريا مثالًا حيًا على أن سقوط نظام لا يعني نهضة أمة، وأن الانتقال من الاحتراق إلى الولادة يحتاج أكثر بكثير من تغيير الأعلام في القصر الرئاسي؛ يحتاج إلى مشروع وطني، وإرادة مستقلة، وشجاعة الاعتراف بالأخطاء التاريخية وإعادة البناء من جديد.
5- اليمن… دولة تتآكل بين الحرب وغياب الشرعية
يقدّم اليمن واحدًا من أوضح النماذج على تفكّك الدولة الوطنية العربية تحت ضغط الحرب الأهلية، والتدخلات الإقليمية، والتجاذبات الدولية. فمنذ اندلاع الصراع عام 2014–2015 بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دوليًا، ودخول التحالف الذي تقوده السعودية على خط المواجهة، تحوّل اليمن تدريجيًا من دولة موحدة إلى فسيفساء سلطات متنافسة:
شمالٌ تسيطر عليه جماعة مسلحة تمتلك مشروعًا سياسيًا وعسكريًا خاصًا، وجنوبٌ يتنازع عليه مجلس انتقالي انفصالي مع قوى حكومية، وشرقٌ مهمَل أمنيًا لكنه حيوي استراتيجيًا، وبحرٌ أحمر وباب المندب صار جزءًا من معادلات الأمن العالمي لا اليمني فقط.
في منتصف العشرينيات من هذا القرن، لم يعد السؤال: متى تنتهي الحرب في اليمن؟
بل أصبح: أيّ يمنٍ سوف يظهر بعد هذه الحرب؟ ومن يملك حق تعريفه؟
أولًا: مشهد سياسي–عسكري متعدد الرؤوس
مع نهاية 2022، أفضت هدنة ترعاها الأمم المتحدة إلى تراجع كبير في وتيرة العمليات العسكرية المباشرة بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية، ورغم انتهاء الإطار الرسمي للهدنة، فإن حالة "اللا حرب - اللا سلم" استمرّت؛ إذ امتنعت الأطراف عن عمليات واسعة النطاق، فيما تواصلت المفاوضات غير المباشرة بين الرياض والحوثيين بوساطة عُمانية وبرعاية أممية.
هذه “الهدنة غير المعلنة” سمحت بإعادة ترتيب القوى في الداخل اليمني، خصوصًا في الجنوب.
ففي حين حافظ الحوثيون على سيطرتهم على العاصمة صنعاء ومعظم الشمال، شهد الجنوب صعودًا متزايدًا للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، والذي بسط نفوذه على عدن ومناطق واسعة في محافظات جنوبية، وتحوّل من مجرد فاعل سياسي إلى قوة شبه دولة تمتلك قوات منظمة، وإدارة أمر واقع في عدد من المدن.
في 2025، برزت بوضوح الشقوق داخل معسكر “مناهضة الحوثيين” نفسه؛ فالسعودية التي دعمت مجلس القيادة الرئاسي (PLC) تحاول تثبيت نفوذها في محافظات الشرق مثل حضرموت والمهرة، فيما اندفع المجلس الانتقالي الجنوبي إلى توسيع سيطرته على هذه المناطق، في خطوة قرأتها الرياض على أنها تهديد لمشروع الدولة اليمنية الواحدة، وتحدٍ مباشر لمصالحها وحدودها. هذا التوتر تطوّر إلى ضربات جوية سعودية على قوات المجلس الانتقالي في حضرموت، وإلى مطالب علنية بانسحاب قواته من محافظات الشرق، في مشهد يعكس تحوّل اليمن من حرب “محور ضد محور” إلى ساحة تنافس بين حلفاء الأمس أنفسهم.
بهذا، لا يعود اليمن منقسمًا إلى “شرعية” و“حوثي” فقط، بل إلى شبكة سلطات متداخلة:
- حوثيون يسيطرون على الشمال ويملكون قرار الحرب مع الخارج.
- مجلس قيادة رئاسي ضعيف النفوذ داخل البلاد، معتمد على دعم خارجي.
- مجلس انتقالي جنوبي يسعى صراحة لاستعادة دولة الجنوب قبل وحدة 1990.
- قوى قبلية ومحلية تمسك بجيوب جغرافية، خصوصًا في الشرق.
ثانيًا: مفاوضات السلام… بين تجميد الحرب وتأبيد الانقسام
منذ 2022، تزايدت المؤشرات على رغبة سعودية في الخروج من الحرب المباشرة، خصوصًا مع التكلفة الإنسانية والسياسية والأمنية الباهظة، ومع تحوّل الصراع إلى حرب استنزاف بلا أفق حاسم. استُؤنفت المحادثات بين الرياض والحوثيين في أكثر من جولة برعاية عُمانية، وتحدثت مراكز أبحاث عن احتمال اتفاق ثنائي يضمن للحوثيين موارد مالية واعترافًا ضمنيًا بشرعيتهم المحلية، مقابل ضمانات أمنية للسعودية على حدودها الجنوبية.
لكن المشكلة الجوهرية تكمن في أن أي اتفاق سعودي - حوثي لا يعني بالضرورة اتفاقًا يمنيًا - يمنيًا؛ إذ إن القوى الجنوبية، وعلى رأسها المجلس الانتقالي، تمتلك مشروعًا مختلفًا يقوم على فك الارتباط، بينما تشعر أطراف أخرى في معسكر “الشرعية” بأن أي تقارب مباشر بين الرياض والحوثيين قد يجري على حسابها.
ورغم ذلك، شهد عام 2025 تطورًا لافتًا تمثل في اتفاق لتبادل 2,900 أسير ومحتجز بين الحوثيين والحكومة اليمنية، في أكبر صفقة من نوعها منذ بداية الحرب، برعاية الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو ما اعتُبر “اختراقًا إنسانيًا” قد يمهّد لبناء ثقة متبادلة، لكنه لا يرقى وحده إلى حل سياسي شامل.
هكذا، تتحول مفاوضات اليمن إلى مسار متعدد المستويات:
- مسار سعودي–حوثي يركّز على الأمن الحدودي ومصالح الرياض.
- مسار أممي يركّز على الشكل السياسي للدولة اليمنية.
- مسار داخلي متعثر بين قوى لا تتفق حتى على تعريف “الوحدة” و“الفيدرالية” و“الانفصال”.
النتيجة أن الحرب الكبرى خفتت، لكن الصراع السياسي على شكل الدولة ومستقبلها تزايد تعقيدًا.
ثالثًا: كارثة إنسانية متجذّرة لا تهدئة لها
على الصعيد الإنساني، يُعتبر اليمن إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم المعاصر بحسب توصيف الأمم المتحدة.
تُقدّر خطط الاستجابة الإنسانية لعام 2025 أن نحو 19.5 مليون شخص داخل اليمن – أي أكثر من نصف السكان – يحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية والحماية، بزيادة تقارب 1.3 مليون شخص عن العام السابق، ما يعني أن الأزمة لا تزال في حالة تفاقم لا انحسار.
تحليلات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) لعامي 2024 - 2025 تشير إلى أن حوالي 17 مليون شخص يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، مع توقع أن تصل نسبة من يعيشون في مستويات “أزمة” أو “طوارئ” غذائية إلى قرابة نصف السكان في بعض الفترات.
تقارير برنامج الأغذية العالمي في أواخر 2025 تفيد بأن 61% من الأسر اليمنية تجد صعوبة في تلبية الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية، وهو رقم يكشف عمق هشاشة منظومة العيش اليومية.
في الوقت نفسه، تُظهر تقارير اقتصادية - اجتماعية أن 57.6% من الأسر تعاني من انعدام أمن غذائي، مع نسب أعلى بكثير في المناطق الريفية (أكثر من 63%)، وبالأخص بين الأسر التي تعولها نساء.
هذه الأرقام تؤكد أن توقف المعارك الواسعة لا يعني نهاية الحرب على المجتمع؛ فالحرب انتقلت من الجبهة العسكرية إلى جبهات الغذاء والصحة والتعليم والخدمات. تآكلت قدرة الدولة والقطاع الخاص على تأمين فرص العمل، وتضررت البنية التحتية الزراعية والمائية، وانهارت الخدمات الصحية، ما جعل اليمن نموذجًا لـ“دولة منهكة” أكثر منه “دولة ما بعد الحرب”.
رابعًا: البحر الأحمر… حين تتحول الحرب الداخلية إلى أزمة عالمية
لا يقف تأثير اليمن عند حدوده البرية؛ فمع تصاعد الحرب في غزة أواخر 2023، دخل الحوثيون على خط الأمن البحري في البحر الأحمر وباب المندب، تحت شعار الضغط على إسرائيل وحلفائها، فبدأت عمليات استهداف السفن التجارية في الممرات البحرية الحيوية.
تشير تقديرات بحثية إلى أن الحوثيين نفذوا أكثر من 190 هجومًا بحلول أكتوبر 2024 على سفن في البحر الأحمر وخليج عدن، ما أدى إلى تحويل مسارات مئات السفن بعيدًا عن قناة السويس والبحر الأحمر، ورفع تكاليف الشحن والتأمين، وإطالة الرحلات البحرية عبر رأس الرجاء الصالح.
هذا التصعيد دفع الولايات المتحدة وبريطانيا إلى قيادة عملية بحرية (“حارس الازدهار”) وتنفيذ ضربات جوية وصاروخية ضد مواقع حوثية في اليمن، قبل أن يتم التوصل في مايو 2025 إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين واشنطن والحوثيين، برعاية عُمانية، ينهي الهجمات المتبادلة المباشرة، مع تعهد الحوثيين بوقف استهداف السفن الأميركية حصراً، مع استمرار خطابهم بأن العمليات ضد سفن مرتبطة بإسرائيل “مستثناة” من هذا التفاهم.
بهذا المعنى، لم يعد الحوثي فاعلًا محليًا ضمن جغرافيا يمنية فقط، بل تحول إلى طرف مؤثر في معادلة الأمن البحري والتجارة العالمية، يستخدم الممرات البحرية كورقة ضغط سياسية وعسكرية في ملفات أبعد من اليمن نفسه.
خامسًا: اليمن نموذجًا لسؤال الدولة العربية
من زاوية البحث الأوسع عن “العرب بين السقوط والنهضة”، يقدم اليمن حالة فريدة لكنها ذات دلالة عالية:
1- دولة تتآكل من الأطراف إلى المركز:
يتقاسم القرار فيها سلطات متعددة، بينما تضعف المؤسسات المركزية، فيتحول “الكيان” إلى إطار شكلي تحمله الخرائط ولا تحمله القدرة الفعلية على الحكم.
2- حرب تتوقف عسكريًا وتستمر سياسيًا وإنسانيًا:
مستوى الضحايا المباشرين من القتال يتقلص، لكن الانهيار المعيشي يغدو الشكل الجديد للعنف.
3- فاعلون محليون يتحولون إلى لاعبين إقليميين ودوليين:
الحوثي مثال واضح لفاعل مسلّح ينطلق من منطقة مهمَّشة، ليصبح جزءًا من معادلات البحر الأحمر والتجارة العالمية، بما يحمله ذلك من تأثير على مصر، السعودية، القرن الإفريقي، وأوروبا وآسيا.
4- تفكك “معسكرات” الحرب التقليدية:
لم يعد الصراع ببساطة “تحالف عربي ضد الحوثي”، بل ظهر تنافس سعودي–إماراتي داخل اليمن نفسه، ما يبرز هشاشة فكرة الجبهة الموحدة في عالم عربي ممزق المحاور.
خلاصة الفقرة
اليمن ليس مجرد حرب أهلية أخرى في سجل المنطقة؛ إنه نموذج مكثف لاختبار قدرة الدولة العربية على البقاء عندما تلتقي ثلاثة عوامل قاتلة:
حرب طويلة، وشرعية سياسية مهتزّة، وتدخلات خارجية متضاربة الأجندات.
في هذا الامتحان، تبدو اليمن اليوم أقرب إلى دولة معلّقة بين وجود قانوني على الورق وواقع فعلي يتقاسمه السلاح والجوع والخراب.
ومن دون مشروع وطني جامع يعيد تعريف معنى “الوحدة” و“الجنوب” و“الشمال” و“السيادة”، ستظل اليمن نموذجًا لما يمكن أن تؤول إليه دول أخرى إذا استمرت في السير على الطريق نفسه.
6- السودان… التفكك كخطر إقليمي ممتد
يُمثّل السودان اليوم واحدة من أخطر حالات الانهيار في العالم العربي والإفريقي معًا؛ ليس فقط بسبب حجم الكارثة الإنسانية الجارية، بل لأن طبيعة الصراع المسلح داخله تهدد بتحويله من دولة ذات حدود معروفة إلى مساحة رخوة لتفكك إقليمي واسع يمتد إلى البحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقي وحوض النيل. منذ اندلاع المواجهات المسلحة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023، دخل السودان في مسار نزاع دموي وصفته الأمم المتحدة مرارًا بأنه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، مع مخاطر جدّية لانزلاقه إلى سيناريو “تفكك الدولة” إذا استمر المسار على حاله.
الصراع في السودان لم يعد مجرد تنافس على السلطة بين جنرالين؛ بل تحوّل إلى معركة على تعريف الدولة نفسها: هل تبقى دولة مركزية أم تتحول إلى فسيفساء من الكيانات المسلحة؟
أولًا: من شراكة انتقالية إلى حرب مزدوجة
جاء انفجار الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تتويجًا لمسار انتقالي معقّد بدأ بسقوط نظام عمر البشير عام 2019.
في الفترة التي تلت السقوط، تشكلت صيغة “شراكة هشة” بين المكوّن العسكري (الجيش وقادة الدعم السريع) وبعض القوى المدنية، لكنها كانت شراكة قائمة على توازن قلق بين مراكز قوة مسلحة، أكثر من كونها انتقالًا حقيقيًا نحو سلطة مدنية ديمقراطية.
في أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالشراكة المدنية عبر انقلاب عسكري، ما فجّر الشارع وأعاد السودان إلى دائرة الحكم العسكري المباشر. في الخلفية، كان الدعم السريع - الذي نشأ أصلًا من “الجنجويد” في إقليم دارفور - يراكم قوته العسكرية والاقتصادية (خصوصًا عبر السيطرة على مناجم الذهب وشبكات التجارة)، إلى أن انفجر التوتر المكبوت مع الجيش في أبريل 2023 إلى حرب مفتوحة في قلب العاصمة الخرطوم ثم في أقاليم متعددة.
تطوّر الصراع إلى حرب مزدوجة:
- حرب على السلطة في المركز (الخرطوم وما حولها)
- وحرب على النفوذ في الأقاليم (دارفور، كردفان، الجزيرة، الشرق…)
هذا النمط من الصراع يعكس فشلًا جذريًا في إدارة المرحلة الانتقالية بعد سقوط البشير، إذ تم القفز فوق سؤال “إعادة بناء الدولة” إلى ترتيب “تقاسم نفوذ بين مسلحين”، ما جعل الانفجار مسألة وقت لا أكثر.
ثانيًا: كارثة إنسانية بحجم قارة
بحسب تقديرات الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية، بات السودان في غضون عامين فقط من اندلاع الحرب:
- أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم: أكثر من 11 مليون شخص نزحوا داخل السودان، إضافة إلى نحو مليوني لاجئ فرّوا إلى دول مجاورة مثل تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا.
- أكثر من 25 مليون شخص بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، أي ما يزيد على نصف سكان البلاد.
- انهيار شبه كامل للخدمات الأساسية في مناطق واسعة، بما في ذلك المستشفيات والمدارس وشبكات المياه والكهرباء، مع صعوبة وصول المساعدات نتيجة استمرار القتال وانعدام الأمن على الطرق.
هذا الحجم من النزوح والاحتياج الإنساني يُحوّل السودان من ساحة صراع داخلي إلى بؤرة عدم استقرار إقليمي؛ إذ إن تدفق اللاجئين، وانتقال السلاح والمقاتلين، وانهيار الاقتصاد، كل ذلك يضغط على دول الجوار الهشة أصلًا، ما يفتح الباب أمام سلسلة من الأزمات المتتالية في الإقليم بأكمله.
ثالثًا: دارفور… عودة شبح الإبادة الجماعية
إذا كانت الخرطوم والجزيرة هما مسرح المواجهة المسلحة المفتوحة بين الجيش والدعم السريع، فإن إقليم دارفور يشكّل الوجه الأكثر قتامة للصراع.
تقارير أممية وحقوقية عديدة حذّرت من أن ما يحدث في بعض مناطق دارفور - خصوصًا في الجنينة ومحيطها - يحمل ملامح جرائم ضد الإنسانية وربما أفعالًا قد ترقى إلى الإبادة الجماعية، خاصة مع استهداف جماعات إثنية بعينها، وعمليات قتل جماعي وتهجير قسري وسلب ونهب.
ما يضاعف خطورة المشهد أن دارفور عاشت سابقًا - في العقد الأول من الألفية - حربًا اتهم فيها نظام البشير وميليشيات الجنجويد بارتكاب فظائع واسعة، ما يعني أن المنطقة تتكرر فيها الحلقة نفسها لكن في ظروف دولية أكثر برودًا وانشغالًا.
هنا نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري:
كيف يمكن لإقليم كان يومًا عنوانًا لأحد أكبر ملفات العدالة الدولية (ملف البشير في المحكمة الجنائية الدولية) أن يعود مجددًا إلى دائرة الفظائع نفسها دون قدرة حقيقية للنظام الدولي على التدخل الفعّال؟
هذا يعكس حدود فعالية العدالة الدولية في سياق دولة تتفكك، وقوى مسلحة لا تعترف إلا بالقوة على الأرض.
رابعًا: الاقتصاد… من دولة موارد إلى دولة انهيار
يمتلك السودان ثروات طبيعية كبيرة (أراضٍ زراعية خصبة، مياه النيل، ثروات باطنية خصوصًا الذهب والمعادن)، وكان يُنظر إليه سابقًا بوصفه “سلة غذاء محتملة” للمنطقة. لكن السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد 2023، شهدت تدميرًا ممنهجًا لقدرة الدولة على إدارة هذه الموارد.
من آثار الحرب:
- انهيار الإنتاج الزراعي في مناطق واسعة نتيجة النزوح وانعدام الأمن.
- تعطّل سلاسل الإمداد والنقل بين الأقاليم.
- توسّع الاقتصاد غير الرسمي، والتهريب عبر الحدود، وتزايد نفوذ فاعلين مسلحين في التحكم بالذهب والموارد.
- انهيار قيمة العملة وزيادة التضخم إلى مستويات جعلت السلع الأساسية بعيدة عن متناول شريحة واسعة من السكان.
اقتصاديًا، السودان يتحرك بسرعة من حالة “اقتصاد صعب” إلى حالة “اقتصاد حرب”؛ حيث تصبح الموارد أدوات تمويل للقتال، لا أدوات لبناء مجتمع.
وفي هذا السياق، تصبح كل تسوية سياسية محتملة مرتهنة بمصالح شبكات السلاح–المال، ما يعقد مهمة أي حكومة مستقبلية في إعادة بناء الاقتصاد على قواعد شفافة.
خامسًا: السودان في الجغرافيا السياسية للمنطقة
جغرافيًا، يحتل السودان موقعًا حساسًا بين:
- البحر الأحمر شرقًا
- مصر وليبيا شمالًا
- تشاد وأفريقيا الوسطى وغرب إفريقيا غربًا
- إثيوبيا وإريتريا جنوبًا وشرقًا
- جنوب السودان جنوبًا
هذه الجغرافيا تجعل من السودان مفترق طرق بين شمال إفريقيا والقرن الإفريقي وحوض النيل، وبالتالي فإن أي تفكك أو استمرار للحرب داخله ستكون له تداعيات مباشرة على:
1- أمن البحر الأحمر
ضعف الدولة في السودان يفتح الباب أمام تحركات جماعات مسلحة أو قوى خارجية في سواحله على البحر الأحمر، وهذا أمر لا يمكن أن يكون بعيدًا عن حسابات دول مثل مصر والسعودية والإمارات، ولا عن توازنات القوى الدولية التي ترى في البحر الأحمر شريانًا اقتصاديًا وأمنيًا بالغ الأهمية.
2- ملف مياه النيل
السودان شريك أساسي بين إثيوبيا ومصر في ملف سد النهضة ومياه النيل. دولة ضعيفة منقسمة، أو سلطة مركزية غير مستقرة، تعني غياب شريك موثوق في أي تفاوض حقيقي حول هذا الملف المصيري للمنطقة.
3- انتقال العدوى الأمنية
استمرار الصراع المسلح يسهّل انتقال السلاح والمقاتلين عبر الحدود إلى تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا وجنوب السودان، ما يخلق بيئة إقليمية خصبة لتكاثر النزاعات.
سادسًا: السودان كنموذج لتحلل الدولة العربية الحديثة
من منظور بحث “العرب بين السقوط والنهضة”، يقف السودان اليوم كحالة تحذيرية قصوى:
- دولة خرجت من حكم ديكتاتوري طويل، لكنها لم تنجح في بناء صيغة انتقالية ذات مضمون مدني، فاختُطف الانتقال بين أجنحة عسكرية وأمنية.
- دولة تمتلك موارد كبيرة، لكنها تُستنزف في مسارات حرب ونزاعات نفوذ بدل أن تُستثمر في التنمية.
- مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، لم تُبن فيه هوية وطنية جامعة قادرة على استيعاب الاختلافات دون اللجوء إلى السلاح.
من هنا، يشكل السودان مرآة لما يمكن أن يحدث في دول عربية أخرى إذا تكررت المعادلة نفسها:
سقوط نظام، انتقال مشوّه، تضخم دور القوى المسلحة، غياب مشروع وطني جامع… ثم انفجار.
خلاصة الفقرة
السودان ليس مجرد ملف إنساني في نشرات الأخبار، بل اختبار مركزي لقدرة الدولة العربية على تفادي سيناريو التفكك الكامل.
السؤال لم يعد: من ينتصر في الحرب، الجيش أم الدعم السريع؟
السؤال الحقيقي أصبح:
هل سيبقى هناك “سودان واحد” يمكن أن يستوعب الجميع، أم أننا أمام حالة تشظٍّ قد تُنتج خرائط جديدة في قلب القارة وعلى شاطئ البحر الأحمر؟
في هذا الامتحان، لا يكفي الضغط الدولي، ولا تكفي بيانات القلق الأممية، ما لم يترافق ذلك مع مشروع سوداني–إقليمي يعيد تعريف معنى الدولة والجيش والاقتصاد والهوية في بلد يملك كل مقومات الحياة… ويعيش في قلب معادلة الموت.
7- ليبيا… نفط بلا دولة
تمثّل ليبيا نموذجًا بالغ الدلالة لفهم كيف يمكن أن تتحول الثروة إلى لعنة حين تغيب الدولة. فمنذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، لم تنجح ليبيا في الانتقال من “الجماهيرية” إلى دولة مؤسسات حديثة، بل انزلقت تدريجيًا إلى حالة ازدواجية سلطات، وتعدد مراكز قوة مسلّحة، وتداخل نفوذ إقليمي ودولي، بينما ظل النفط - المورد الرئيسي - محور الصراع وهدف التحكم الأوّل.
اليوم، بعد أكثر من عقد على الثورة، تقف ليبيا في منتصف العشرينيات أمام مفارقة قاسية:
بلد يمتلك واحدًا من أكبر احتياطات النفط في إفريقيا، وعدد سكان قليل نسبيًا، وموقعًا استراتيجيًا على المتوسط، لكنه يعيش انقسامًا سياسيًا - مؤسسيًا، واقتصادًا رهينة الإغلاق والابتزاز، ومجتمعًا مرهقًا بفوضى السلاح.
أولًا: انقسام السلطة وتآكل الشرعية
البنية السياسية في ليبيا تقوم منذ سنوات على ازدواجية مؤسساتية:
- في الغرب: حكومة “الوحدة الوطنية” في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، معترف بها أمميًا (لكن مؤقتة من حيث المبدأ)، وتستند إلى تحالفات مع قوى عسكرية–سياسية في الغرب وبعض الدعم التركي.
- في الشرق: حكومة موازية يهيمن عليها معسكر مجلس النواب في طبرق، ويتكئ على القوة العسكرية للجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، مع دعم إقليمي ودولي (مصر، الإمارات سابقًا، وروسيا/فاغنر، إلخ).
هذا الانقسام لا يُترجم فقط على مستوى الحكومات، بل على مستوى الشرعية نفسها:
من يمثّل ليبيا في التفاوض الدولي؟ من يوقّع على عقود النفط والاستثمار؟ من يمتلك حق إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية؟
في كل مرة يُطرح فيها حل أممي - كخرائط الطريق المتكررة، ومؤتمرات برلين، والدعوات للانتخابات - يظهر سؤال أعمق:
هل يمكن إجراء انتخابات في بلد لا يمتلك احتكارًا واحدًا للسلاح؟ ومن يضمن قبول الخاسر بنتائجها؟
فشل محاولات تنظيم انتخابات عامة في 2021 و2023 ثم 2024 يعكس أن مشكلة ليبيا ليست في الآليات الانتخابية ولا في القوانين فقط، بل في غياب توافق على قواعد اللعبة نفسها:
- من له حق الترشح؟
- ما مصير القيادات العسكرية؟
- كيف تُدمج القوى المسلحة في بنية دولة واحدة؟
من دون حسم هذه الأسئلة البنيوية، تبقى الانتخابات شعارًا مؤجلاً، وتظل الحكومات “موقتة” لكن إلى أجلٍ مفتوح.
ثانيًا: النفط… ثروة تتحول إلى سلاح
النفط هو قلب الاقتصاد الليبي ومصدر أكثر من 90% من إيرادات الدولة.
لكن في ظل الانقسام السياسي، تحوّل النفط من مورد للتنمية إلى ورقة ابتزاز سياسي وعسكري:
- تُستخدم الموانئ والحقول النفطية كورقة ضغط من قبل مجموعات مسلحة أو قوى قبَلية أو كيانات سياسية، عبر إغلاقها جزئيًا أو كليًا لفرض شروط سياسية أو مالية.
- كل إغلاق لحقول رئيسية مثل الشرارة أو السدرة أو الموانئ في الهلال النفطي، ينعكس مباشرة على دخل الدولة، وعلى الميزانية العامة، وعلى قدرة المصرف المركزي على تمويل الرواتب والدعم.
- في أوقات عديدة، شهدت ليبيا موجات من “الإغلاق السياسي للنفط”، كما حدث مرارًا منذ 2013، ليصبح تعطيل التصدير سلاحًا تفاوضيًا في يد أطراف لا تمتلك شرعية انتخابية، لكنها تمتلك القدرة على حبس النفط في باطن الأرض.
هذا الاستخدام للنفط كسلاح داخلي يضع ليبيا في حالة هشاشة اقتصادية بنيوية:
ففي ظل الاعتماد الكلي على الإيرادات النفطية، يعني أي إغلاق طويل الأمد شللًا ماليًا، ويُضعف قدرة أي حكومة – في الشرق أو الغرب – على تثبيت شرعيتها عبر الخدمات والرواتب.
اقتصاديًا، تحرم ليبيا نفسها من فرصة استثمار فوائض النفط في تنويع الاقتصاد، وتحسين البنية التحتية، وبناء مؤسسات مستقرة. سياسيًا، يتحول النفط إلى “جائزة” تتنازع عليها القوى المختلفة، بدل أن يكون قاعدة لبناء عقد اجتماعي جديد.
ثالثًا: فوضى السلاح وتعدد الميليشيات
منذ سقوط النظام السابق وتفكك الجيش والأجهزة الأمنية على نمطها القديم، ظهرت عشرات الكتائب والميليشيات، خصوصًا في الغرب، بعضها ذات خلفية ثورية، وبعضها ذات طابع محلي–قبلي، وبعضها تحوّل إلى قوى أمنية “شبه رسمية” تعمل بميزانيات من الدولة لكنها تحتفظ بولائها الخاص.
في الشرق، اتخذت فوضى السلاح شكلاً مختلفًا عبر إعادة تشكيل قوات عسكرية تحت قيادة حفتر، لكن مع بقاء وحدات وقوى محلية لها نفوذها الخاص، إضافة إلى حضور مرتزقة أجانب وعناصر من شركات أمنية روسية (فاغنر سابقًا) ساهمت في ترجيح الكفة في بعض جبهات القتال.
هذه اللوحة المتداخلة تعني أن ليبيا تعيش تعدد جيوش لا تعدد حكومات فقط.
وفي غياب عملية نزع سلاح وإعادة دمج شاملة، تبقى كل مبادرة سياسية مهددة بـ:
- تعطيلها ميدانيًا بقوة السلاح.
- تحويلها إلى غطاء جديد لإعادة توزيع النفوذ بين أمراء الحرب.
رابعًا: الأبعاد الإقليمية والدولية للصراع الليبي
ليبيا ليست جزيرة معزولة؛ موقعها الجغرافي وثروتها جعل منها ساحة تنافس إقليمي ودولي منذ 2011:
- على مستوى الإقليم، تداخلت الأجندات المصرية والتركية والإماراتية والقطرية في ليبيا بدرجات متفاوتة، عبر دعم أطراف مختلفة، عسكريًا وسياسيًا وماليًا، ما جعل تسوية الصراع الليبي رهينة أحيانًا لتوازنات خارجية أكثر من كونها استجابة لإرادة داخلية.
- على المستوى الدولي، شكّل ملف الهجرة غير النظامية عبر المتوسط ورقة ضغط بين ليبيا والاتحاد الأوروبي، خصوصًا إيطاليا، حيث استُخدمت السواحل الليبية كممرّ لمئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين نحو أوروبا، في ظل غياب دولة قادرة على ضبط الحدود والسواحل.
- كما لعبت روسيا، عبر انتشار عناصر فاغنر في الشرق والجنوب، دورًا متزايدًا في السنوات الأخيرة، ما جعل ليبيا جزءًا من خريطة الصراع الأوسع بين روسيا والغرب، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا.
هذه التداخلات تجعل من الأزمة الليبية جزءًا من معادلة الأمن في المتوسط وشمال إفريقيا، وتحدّ من قدرة الفاعلين الليبيين وحدهم على حسم المسار، في ظل معارك الوكالة والتسويات المؤقتة.
خامسًا: المجتمع الليبي بين الإنهاك والبحث عن دولة
على المستوى الاجتماعي، دفع الليبيون ثمن هذا الانقسام باهظًا:
- تآكل الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وكهرباء وماء، رغم الإمكانات المالية المتاحة حين يستمر تدفق النفط.
- اضطراب الأمن اليومي في مناطق عديدة، وانتشار السلاح، وتعدد مراكز القوى.
- تهجير ونزوح داخلي في فترات القتال، وإن كان أقل كثافة من حالات مثل سوريا واليمن، لكنه ترك ندوبًا عميقة في البنية المجتمعية.
- إعادة تسييس الهويات المناطقية والقبلية، بحيث أصبح الانتماء إلى مدينة أو قبيلة أو ميليشيا أكثر وثوقًا من الانتماء إلى الدولة المركزية.
في المقابل، ما تزال هناك كتلة اجتماعية صامتة تطمح إلى قيام دولة مستقرة، خصوصًا في المدن الكبرى، وبين الشباب المتضررين من انسداد الأفق، لكن هذه الكتلة لم تستطع حتى الآن أن تتحول إلى قوة سياسية منظمة قادرة على فرض مسار مختلف.
سادسًا: ليبيا كتحذير استراتيجي للعالم العربي
في إطار البحث عن “العرب بين السقوط والنهضة”، تقدّم ليبيا تحذيرًا استراتيجيًا واضحًا:
1- دولة بلا مشروع وطني جامع تتحول بسهولة إلى ساحة نفوذ:
حين يسقط النظام القديم ولا يُبنى بديل مؤسسي حقيقي، تُملأ الفراغات بالسلاح والمال الخارجي.
2- الثروة بلا مؤسسات تتحول إلى عامل تفجير لا عامل استقرار:
النفط في ليبيا اليوم ليس “قوة ناعمة”، بل سببًا للصراع، وحافزًا لاستمرار الانقسام، ووسيلة ابتزاز داخلية وخارجية.
3- الانقسام السياسي إذا طال، يعيد تشكيل الهوية الوطنية نفسها:
ليبيا التي كانت تُرى دولة واحدة بمدنها وقبائلها، أصبحت مهددة بتحول الهويات المحلية إلى بدائل عن الهوية الوطنية.
خلاصة الفقرة
ليبيا اليوم ليست بلدًا يفتقر إلى الموارد، بل بلد يفتقر إلى صيغة متفق عليها للدولة.
من غير إطار دستوري جامع، ولا احتكار شرعي للسلاح، ولا توزيع عادل وشفاف للثروة، ستبقى ليبيا تتحرك في دائرة مغلقة: هدوء مؤقت، ثم انفجار، ثم تسويات شكلية، ثم عودة إلى نقطة الصفر.
في امتحان الوجود العربي، تقف ليبيا كمرآة لما يمكن أن يحدث حين تُترك دولة غنية دون مشروع، وحين يُختزل مفهوم “السيادة” في من يسيطر على الحقول والموانئ، لا في من يبني الإنسان والمؤسسة.
8- العراق… استقرار هش فوق ذاكرة ملتهبة
يقدَّم العراق اليوم في الخطاب السياسي والإعلامي كثيرًا بوصفه دولة “خرجت من نفق الفوضى” وعادت إلى حالة من الاستقرار النسبي بعد عقود من الحروب والحصار والاحتلال والطائفية والإرهاب. لكن نظرة تحليلية أعمق تكشف أن هذا الاستقرار أقرب إلى هدنة فوق فوهة بركان منه إلى استقرار مؤسسي راسخ؛ إذ ما تزال بنية الدولة العراقية محكومة بثلاثة عوامل متداخلة:
- ذاكرة ملتهبة من العنف والحروب والانقسامات.
- نظام سياسي قائم على محاصصة طائفية–حزبية.
- تنازع نفوذ بين قوى خارجية، في مقدمتها الولايات المتحدة وإيران، مع صعود فاعلين مسلّحين من داخل العراق نفسه.
بهذا المعنى، يمثّل العراق نموذجًا حيًّا لدولة عربية تبدو “هادئة” في الظاهر، لكنها تحمل في عمرانها السياسي والاجتماعي شروخًا عميقة قد تعيد إنتاج العنف في أي لحظة اختلال.
أولًا: من الاحتلال إلى ما بعد “داعش” – انتقال لم يكتمل
منذ الغزو الأميركي عام 2003، دخل العراق في مسار تفكيك جذري لبنية الدولة السابقة؛ أُسقط النظام البعثي، وحُلّ الجيش، وأُعيد بناء النظام السياسي على أساس تعددي ظاهري، لكنه في العمق قام على توزيع السلطة وفق الهويات الطائفية والإثنية شيعة، سُنة، أكراد بشكل أساسي.
توالت الحكومات، وتغيّرت الوجوه، لكن البنية بقيت أسيرة:
- أحزاب كبيرة تتحكم في الوزارات والموارد.
- فساد مؤسسي واسع النطاق، صنّف العراق لسنوات ضمن أكثر دول العالم فسادًا بحسب مؤشرات دولية.
- اقتصاد ريعي يعتمد على النفط بصورة شبه مطلقة، مع توسّع في التوظيف الحكومي لا يوازيه إنتاج حقيقي في القطاعات الأخرى.
ثم جاء تنظيم “داعش” (2014–2017) ليضيف طبقة أخرى من الجراح؛ فاحتلال الموصل ومناطق واسعة من نينوى والأنبار وصلاح الدين، ثم الحرب لاستعادة هذه المناطق، خلّف دمارًا كبيرًا في البنية التحتية، ونزوحًا واسعًا، وذكريات ثقيلة من العنف والاستقطاب المذهبي.
ورغم إعلان هزيمة “داعش” جغرافيًا في 2017، فإن المرحلة التي تلت لم تشهد تفكيكًا لأسباب ظهوره:
- شعور مناطق عربية سُنية بالتهميش والإقصاء.
- ضعف الخدمات والبنية التحتية.
- بطالة عالية بين الشباب.
- بطء في إعادة الإعمار.
هذا يعني أن العراق دخل ما بعد “داعش” وهو لم يخرج أصلًا من دوامة ما بعد 2003.
ثانيًا: النظام السياسي بين المحاصصة والاحتجاج
يعتمد النظام السياسي العراقي على صيغة “المحاصصة” التي توزَّع بموجبها المناصب والوزارات بين مكوّنات طائفية وحزبية، في معادلة لم تعد مقبولة لدى قطاع واسع من المجتمع، خصوصًا بعد احتجاجات تشرين 2019 التي شهدت خروج عشرات الآلاف من الشباب في بغداد والجنوب مطالبين بإنهاء الفساد والمحاصصة والتبعية للخارج، وببناء دولة مواطنة لا دولة محاصصة.
هذه الاحتجاجات واجهت قمعًا عنيفًا أسفر عن مئات الشهداء وآلاف الجرحى، واتُّهمت قوى مسلّحة وجهات داخل الدولة وخارجها بالضلوع في ذلك. لكنها رغم قمعها تركت أثرًا مهمًا:
- أظهرت أن الشارع الشيعي نفسه – الذي اعتبره البعض تاريخيًا “حاضنة” للأحزاب الحاكمة – بات يرفض الصيغة القائمة.
- كشفت تآكل الشرعية الشعبية لكثير من القوى السياسية التقليدية.
- أفرزت حالة وعي جديدة لدى الشباب حول ضرورة إعادة تعريف الدولة والهوية السياسية.
مع ذلك، لم تُترجم هذه الاحتجاجات حتى الآن إلى تغيير جذري في بنية النظام، بل تم استيعاب جزء من غضب الشارع عبر تنازلات شكلية، وتدوير للنخب، بينما بقي الجوهر على حاله:
طبقة سياسية قوية، وأحزاب تملك المال والسلاح، ومؤسسات دولة مخترقة من شبكات النفوذ.
ثالثًا: الحشد الشعبي… بين شرعية المقاومة وتحدي احتكار العنف
برعاية الفتوى الشهيرة التي أصدرها المرجع السيد السيستاني في 2014 لمواجهة “داعش”، تشكل “الحشد الشعبي” كإطار جامع لفصائل مسلّحة شاركت في القتال إلى جانب القوات الحكومية. وبعد هزيمة “داعش”، تم ضم الحشد نظريًا إلى المنظومة الأمنية الرسمية، بصفته جزءًا من القوات المسلحة العراقية.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا:
- بعض فصائل الحشد تحتفظ بولاءات سياسية وعقائدية عابرة للحدود، مرتبطة بمحور إقليمي تقوده إيران.
- تمتلك هذه الفصائل قدرات عسكرية مستقلّة، وشبكات اقتصادية وإعلامية، وتشارك سياسيًا عبر أحزاب وكتل برلمانية.
هذا الوضع يخلق معضلة في مفهوم احتكار الدولة للعنف؛ إذ تصبح السيادة موزعة عمليًا بين الجيش النظامي والشرطة الاتحادية من جهة، وقوى الحشد وفصائل أخرى من جهة ثانية.
في السنوات الأخيرة، ظهرت توترات متقطعة بين الحكومة وبعض الفصائل، خاصة عندما حاولت الدولة فرض قرارات على مستوى المناصب الأمنية أو السياسة الخارجية. كما شهدت الساحة العراقية صراع ظل بين واشنطن وطهران، حيث تعرّضت قواعد تضم قوات أميركية لهجمات صاروخية وطائرات مسيّرة تبنّتها أو نُسبت إلى فصائل محسوبة على الحشد، وردّت الولايات المتحدة بضربات جوية في العراق وسوريا.
بهذا يتحول العراق إلى ساحة اشتباك غير مباشر بين قوتين دوليتين، فيما تحاول الحكومة أن تُظهر نفسها ممسكة بزمام الأمن، لكنها في الواقع تتعايش مع تعدد مراكز القرار العسكري.
رابعًا: إقليم كردستان… شريكٌ أم دولة مؤجلة؟
إقليم كردستان العراق يشكّل حالة خاصة داخل الدولة العراقية:
- يمتلك برلمانه وحكومته وقواته (البيشمركة).
- يرتبط بملفات الطاقة والنفط عبر تصدير جزء من إنتاجه بشكل مستقل أو بالتنسيق مع بغداد.
- يدخل في أزمات متكررة مع الحكومة الاتحادية بشأن الميزانية وتقاسم الموارد النفطية وصلاحيات الإقليم.
في السنوات الأخيرة، تصاعد التوتر بين بغداد وأربيل على خلفية:
- قرارات قضائية عراقية تبطل بعض العقود النفطية التي أبرمها الإقليم مع شركات أجنبية.
- خلافات حول نسبة الإقليم من الميزانية العامة، وتعطيل صرف رواتب الموظفين والبيشمركة في بعض الفترات.
رغم ذلك، يبقى الإقليم، مقارنة ببقية أجزاء العراق، أكثر استقرارًا وأفضل خدمات في بعض المجالات، ما يعمّق شعورًا متزايدًا بالتمايز، ويفتح دائمًا باب السؤال عن مستقبل العلاقة بين “الإقليم” و“المركز”:
هل سيبقى نموذج فيدرالي واسع الصلاحيات؟ أم أن حلم الدولة الكردية المستقلة المؤجل ما يزال حيًا تحت الرماد؟
وجود هذا الملف بحد ذاته يجعل من وحدة العراق السياسية مسألة مرتبطة بالمعادلات الإقليمية والدولية بقدر ما هي مرتبطة بالإرادة الداخلية.
خامسًا: بين واشنطن وطهران… سيادة على الحبل المشدود
إحدى أهم خصائص الحالة العراقية أن قرارها السياسي والأمني لا يمكن فهمه من دون النظر إلى تنازع النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران:
- الولايات المتحدة، التي احتلت العراق وأسقطت نظامه السابق، ما زالت تحتفظ بقوات عسكرية تحت عنوان “المستشارين” و“مكافحة الإرهاب”، وتعتبر العراق جزءًا من استراتيجيتها في موازنة النفوذ الإيراني في المنطقة.
- إيران ترى في العراق عمقًا استراتيجيًا، وممرًا حيويًا نحو سوريا ولبنان، وساحة نفوذ سياسي–مذهبي، وتستثمر عبر أحزاب وفصائل وجماعات اقتصادية ودينية في ترسيخ نفوذها.
أي حكومة عراقية تجد نفسها على حبل مشدود:
- إذا اقتربت كثيرًا من واشنطن، تواجه ضغطًا من قوى داخلية مدعومة من طهران.
- وإذا اصطفّت بشكل واضح مع طهران، تواجه ضغوطًا اقتصادية وسياسية وربما عقوبات من واشنطن وحلفائها.
هذا التوازن القلق يجعل “السيادة” مفهومًا نظريًا أكثر منه واقعًا؛ إذ كثيرًا ما تتحول القرارات الكبرى إلى نتيجة توازن بين الخارجين، لا حصيلة نقاش داخلي حر.
سادسًا: العراق نموذجًا للاستقرار الهش في العالم العربي
في إطار بحث “العرب بين السقوط والنهضة”، يقدم العراق نموذجًا متقدّمًا لـ فكرة الاستقرار الهش:
1- استقرار فوق ذاكرة ملتهبة
ذاكرة الحروب (إيران–العراق، غزو الكويت، الحصار، غزو 2003، الحرب الأهلية، داعش…) لم تُستوعَب بعد في مشروع مصالحة حقيقي، بل بقيت حاضرة في الوعي الجمعي، يمكن استدعاؤها بسهولة في أي صراع سياسي أو طائفي.
2- دولة قائمة لكن سيادتها مجزأة
لا يمكن إنكار وجود مؤسسات رسمية وبرلمان وحكومة وانتخابات دورية، لكن هذه الأطر تعمل داخل فضاء مزدحم بقوى السلاح والنفوذ الخارجي، ما يجعلها أقل قدرة على فرض إرادتها على الجميع.
3- اقتصاد ريعي بلا عقد اجتماعي جديد
استمرار الاعتماد على النفط وغياب تنويع اقتصادي حقيقي، مع فساد يتغلغل في أجهزة الدولة، يجعل الاستقرار الاقتصادي مرهونًا بأسعار النفط والتوازنات السياسية.
خلاصة الفقرة
العراق اليوم ليس نموذج دولة منهارة كليًا، ولا نموذج دولة مستقرة تمامًا؛ إنه حالة وسطية معقدة:
دولة تعيش، لكنها لم تتعافَ، وتُدير توازنات، لكنها لم تُنتج بعد مشروعًا وطنيًا جامعًا يتجاوز ثنائية ما قبل 2003 وما بعده.
في امتحان الوجود العربي، يطرح العراق سؤالًا حرجًا:
هل يمكن لدولة خرجت من هذا القدر من الحروب والاحتلال والطائفية أن تُعيد بناء نفسها على أساس المواطنة وسيادة القانون؟
أم أن أقصى ما يمكن الوصول إليه هو إدارة استقرار هش، إلى أن يأتي زلزال جديد يفتح دورة أخرى من العنف؟
9- الصومال والقرن الإفريقي… جغرافيا جديدة للأمن العربي
لم يعد القرن الإفريقي – وعلى رأسه الصومال – مجرد هامش جغرافي في خريطة الاهتمامات العربية، بل تحوّل خلال العقدين الأخيرين إلى واحدة من أكثر الساحات تأثيرًا في معادلة الأمن الإقليمي العربي، خاصة مع تزايد أهمية البحر الأحمر، وباب المندب، وخطوط التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا. وفي قلب هذه اللوحة، يقف الصومال كحالة دولةٍ ممزقة سياسيًا، لكنها شديدة الحساسية استراتيجيًا:
دولة فيدرالية معترف بها دوليًا (جمهورية الصومال)، وإقليم شبه مستقل (بونتلاند)، وكيان يعلن نفسه دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع (أرض الصومال / صوماليلاند)، مع وجود فاعل جهادي عنيف هو حركة الشباب، إلى جانب حضور كثيف لقوى إقليمية ودولية (تركيا، دول الخليج، إثيوبيا، كينيا، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي…).
بهذا المعنى، يشكّل الصومال والقرن الإفريقي امتدادًا للأمن القومي العربي خارج حدوده التقليدية: ما يحدث هناك لا يبقى هناك.
أولًا: دولة فيدرالية على خريطة متشظية
من الناحية الرسمية، تُعتبر جمهورية الصومال الفيدرالية هي الكيان المعترف به دوليًا، بعاصمتها مقديشو، وحكومة تسعى منذ سنوات لإعادة بناء مؤسسات الدولة بعد عقود من الحرب الأهلية والانهيار.
لكن على الأرض، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا:
- مقديشو تمثّل مركزًا سياسيًا وأمنيًا هشًا، يعتمد في كثير من الأحيان على دعم بعثة الاتحاد الإفريقي ، وعلى التدريب العسكري والمالي من شركاء خارجيين مثل تركيا والولايات المتحدة.
- بونتلاند في الشمال الشرقي، إقليم حكم ذاتي أعلن عام 1998، يحتفظ بهياكل حكم وأجهزة أمنية خاصة، ويتعامل مع الحكومة الفيدرالية بمنطق الشراكة المتفاوض عليها لا التبعية الكاملة.
- أرض الصومال (صوماليلاند) في الشمال الغربي، أعلنت انفصالها من طرف واحد عام 1991، وتدير مؤسسات دولة كاملة (برلمان، حكومة، انتخابات) وتحظى بدرجة من الاستقرار النسبي، لكنها لا تتمتع باعتراف دولي رسمي كدولة مستقلة حتى الآن.
هذه الخريطة تعني أن “الصومال الواحد” كما يظهر في الخرائط الرسمية هو في الواقع ثلاثة مسارات سياسية متوازية، لكل منها حساباته الداخلية، وتحالفاته الخارجية، ورؤيته الخاصة لمستقبل الكيان الصومالي.
ثانيًا: حركة الشباب… الفاعل المسلح الذي يمنع اكتمال الدولة
رغم التقدم النسبي الذي حققته القوات الحكومية بدعم من الاتحاد الإفريقي والشركاء الدوليين، ما تزال حركة الشباب – المرتبطة بتنظيم القاعدة – فاعلًا مركزيًا في المشهد الأمني الصومالي.
الحركة تسيطر أو تنافس على مناطق واسعة في الوسط والجنوب، وتنفذ هجمات انتحارية ومعقدة ضد:
- مقار حكومية
- قوات أمنية
- منشآت مدنية (فنادق، أسواق، تقاطعات مكتظة)
وهو ما يبقي عاصمة البلاد نفسها (مقديشو) في حالة استنفار أمني متكرر.
هذا الوجود المسلح يمنع اكتمال بناء مؤسسات الدولة بعدة طرق:
1- استنزاف الموارد: جزء كبير من الميزانية واهتمام الحكومة مكرّس للملف الأمني.
2- تقويض الشرعية: قدرة حركة الشباب على ضرب العاصمة تضعف ثقة المواطنين في قدرة الدولة على حمايتهم.
3- إعاقة التنمية: غياب الاستقرار الأمني يطرد الاستثمار الخارجي، ويعرقل مشاريع البنية التحتية.
بهذا، تقف الحكومة الفيدرالية في معادلة صعبة:
تحاول بناء دولة حديثة، لكنها مضطرة لخوض حرب طويلة الأمد ضد فاعل مسلح عقائدي، في بيئة اجتماعية - اقتصادية شديدة الهشاشة.
ثالثًا: صوماليلاند… دولة بلا اعتراف وتحوّل في موازين البحر الأحمر
“أرض الصومال” (صوماليلاند) حالة فريدة:
كيان يمتلك مؤسسات سياسية وانتخابية وأمنية، ويقدَّم غالبًا بوصفه أكثر استقرارًا وأمنًا من بقية أجزاء الصومال، لكنه لا يحظى باعتراف رسمي كدولة مستقلة من الأمم المتحدة أو معظم الدول.
في مطلع 2024، أعلنت إثيوبيا توقيع مذكرة تفاهم مع صوماليلاند تمنحها – بحسب التسريبات – حق استخدام ميناء في “بربرة” على خليج عدن، والوصول إلى شريط ساحلي، مقابل بحث إمكانية منح أديس أبابا اعترافًا رسميًا بصوماليلاند كدولة مستقلة، أو دعمًا سياسيًا خاصًا لها.
هذه الخطوة أثارت:
- غضب الحكومة الفيدرالية في مقديشو، التي اعتبرت الاتفاق تعديًا على السيادة الصومالية ووحدة أراضيها.
- قلقًا إقليميًا وعربيًا، إذ يعني وجود إثيوبيا – الدولة الحبيسة – على منفذ بحري استراتيجي جديد، تغييرًا في ميزان القوى في البحر الأحمر وخليج عدن.
- نقاشًا واسعًا حول مستقبل صوماليلاند: هل يمهّد هذا المسار للاعتراف التدريجي بها من قِبل دول أخرى؟ أم أنه ورقة تفاوض استخدمتها القيادة هناك لتحسين موقعها؟
في هذا السياق، يصبح الصومال جزءًا من معادلة أوسع للبحر الأحمر؛ حيث تتقاطع مصالح دول عربية (كمصر والسعودية واليمن)، مع مصالح غير عربية (إثيوبيا، إريتريا، إسرائيل، تركيا)، ضمن فضاء مائي واحد له قيمة استراتيجية واقتصادية هائلة.
رابعًا: القرن الإفريقي كامتداد لمفهوم الأمن القومي العربي
إذا نظرنا إلى القرن الإفريقي – الصومال، إثيوبيا، إريتريا، جيبوتي – من زاوية عربية، نكتشف أنه يشكّل الضفة المقابلة للجزيرة العربية ومصر واليمن والسودان.
أي اضطراب عميق في هذه المنطقة يؤثر مباشرة على:
1- أمن البحر الأحمر وباب المندب
الذي يمر عبره جزء مهم من التجارة العالمية، وخاصة إمدادات الطاقة والسلع بين آسيا وأوروبا.
وجود دول ضعيفة أو متفككة على هذا الممر يفتح الباب أمام:
- القرصنة (كما حدث سابقًا قبالة السواحل الصومالية).
- استخدام الممرات البحرية في صراعات مسلحة، كما رأينا في البحر الأحمر وباب المندب في السنوات الأخيرة.
2- التنافس على الموانئ والقواعد العسكرية
شهدت المنطقة تكاثرًا في القواعد العسكرية (أميركية، صينية، تركية، إماراتية، فرنسية…) في دول مثل جيبوتي وإريتريا، بالإضافة إلى نفوذ متزايد في موانئ الصومال، ما يجعل البحر الأحمر وخليج عدن أشبه بـ شرطة مرور دولية متعدّدة الأطراف، لا تتحكم فيه دولة واحدة.
3- الهجرة واللجوء والاتجار بالبشر
إذ تُستخدم بعض السواحل في القرن الإفريقي كنقاط انطلاق لمهاجرين ولاجئين نحو شبه الجزيرة العربية أو عبرها باتجاه الشمال، ما يضيف بعدًا إنسانيًا وأمنيًا إضافيًا للمعادلة.
كل ذلك يجعل من فكرة الأمن القومي العربي أوسع من نطاق الحدود السياسية التقليدية؛ فلا يمكن الحديث عن أمن البحر الأحمر أو باب المندب أو قناة السويس دون إدخال القرن الإفريقي في الحساب.
خامسًا: أدوار عربية مترددة… وفرص ضائعة
رغم إدراك كثير من الدول العربية لأهمية الصومال والقرن الإفريقي، فإن الحضور العربي بقي غالبًا مترددًا ومجزأً:
- بعض الدول الخليجية استثمرت في موانئ وقواعد ومشاريع بنية تحتية، لكنها في كثير من الأحيان تحركت في إطار تنافس فيما بينها أو تنافس مع قوى إقليمية أخرى، بدل أن تكون جزءًا من رؤية عربية مشتركة للأمن والتنمية في المنطقة.
- مصر تنظر إلى القرن الإفريقي من زاوية أمن البحر الأحمر ومياه النيل، وتركّز بشكل خاص على إثيوبيا وسد النهضة، لكن انشغالها الداخلي والإقليمي قلّل في فترات كثيرة من قدرتها على بلورة سياسة شاملة تجاه الصومال وبقية القرن.
- الجامعة العربية ظلت تتحرك في نطاق البيانات والدعم السياسي، مع قدرة محدودة على التأثير المباشر في مسارات إعادة بناء الدولة أو حل النزاعات.
بهذا، يبدو أن الفراغ العربي النسبي في القرن الإفريقي فتح المجال أمام قوى غير عربية لتكريس نفوذها:
تركيا، عبر وجود عسكري–تدريبي في مقديشو واستثمارات في الموانئ.
إثيوبيا، عبر محاولات الوصول إلى البحر.
قوى دولية عبر قواعد عسكرية في جيبوتي وغيرها.
سادسًا: الصومال والقرن الإفريقي في امتحان الوجود العربي
في إطار بحث “بين السقوط والنهضة: العرب في امتحان الوجود”، يمثّل الصومال والقرن الإفريقي اختبارًا لمدى توسّع أو ضيق مفهومنا للأمن والنهضة:
1- هل نرى الأمن العربي محصورًا داخل الحدود، أم ممتدًا إلى الضفة المقابلة للبحر؟
إذا بقيت النظرة ضيقة، فسيتعامل العرب مع الصومال كـ“ملف مساعدات إنسانية” أو “ساحة نفوذ ثانوية”، لا كجزء من هندسة أمنهم الاستراتيجي.
2- هل يمكن للعرب أن يتحركوا في القرن الإفريقي ككتلة واحدة؟
أم سيستمرون في التنافس فيما بينهم، وترك الساحة مفتوحة لتقاطعات مشاريع تركيا وإثيوبيا وإسرائيل والصين والغرب؟
3- هل نستطيع تحويل البحر الأحمر إلى فضاء تعاون وتنمية مشتركة؟
أم سيظل بحرًا مفتوحًا أمام كل القوى، باستثناء قوة عربية منظمة تمتلك رؤية واستراتيجية؟
خلاصة الفقرة
الصومال، ببنيته المتشظية ووجود فاعلين مسلحين ودول غير معترف بها وقوى خارجية، ليس “قضية إفريقية” فقط؛ إنه جزء من سؤال العرب عن أنفسهم:
هل نكتفي بالدفاع عن حدودنا المباشرة، أم ندرك أن خطوط التجارة والممرات البحرية والضفة المقابلة هي جزء من أمننا؟
في امتحان الوجود، يذكّرنا القرن الإفريقي بأن الخرائط ليست خطوطًا على الورق، بل شبكات مصالح وأمن وغذاء وطاقة؛ من يُهملها اليوم، سيدفع ثمنها غدًا على موانئه وحدوده وأسواقه.
10- إسرائيل… دولة بين جبهات مفتوحة وانقسام داخلي
تُعدّ إسرائيل اليوم واحدة من أكثر الدول تأثيرًا في مسار الأمن والسياسة في الشرق الأوسط، ليس فقط لكونها قوة عسكرية متقدمة، وإنما لأنها متداخلة في صراعات إقليمية متعددة وفي آنٍ واحد تُعاني انقسامات داخلية عميقة حول هويتها ومستقبلها. وبذلك يصبح فهم إسرائيل أمرًا محوريًا في قراءة المشهد العربي المعاصر، ليس بوصفها «عدوًا خارجيًا» فقط، بل كفاعل يُعيد تشكيل المعادلات، ويضع الأسئلة الكبرى حول الأمن، القانون الدولي، السيادة، والعلاقات بين الشعوب والدول.
أولًا: إسرائيل والقوة العسكرية في سياق المنطقة
تتميّز إسرائيل بقدرات عسكرية وتكنولوجية متقدمة، وتحظى بدعم أمني وسياسي كبير من حليفها الرئيسي الولايات المتحدة. ميزان القوة بين إسرائيل وجيرانها مختلف جذريًا عن أي علاقة قوة أخرى في المنطقة، ما يجعلها قوة لا تُستهان بها في أي معادلة.
لكن هذا الواقع العسكري لا يعني بالضرورة سلامة استراتيجية مطلقة؛ إذ يُظهر تحليل التطورات منذ 2023 أن إسرائيل لا تقف على جبهة واحدة، ولا على مشهد واحد ثابت:
1- غزة والضفة الغربية
— في فلسطين المحتلة، استمرت المواجهات مع الفصائل الفلسطينية، خصوصًا في غزة، بوتيرة متقطعة بعد حرب 2023 التي خلّفت أعدادًا ضخمة من الضحايا والدمار، وأظهرت قدرة المقاومة على الصمود رغم الفارق بين القدرات.
— في الضفة، تصاعدت حوادث العنف بين المستوطنين والفلسطينيين، إلى جانب عمليات عسكرية إسرائيلية مكثفة، ما يعكس استمرار الحالة الأمنية غير المستقرة وعدم وجود أفق سياسي واضح للتهدئة أو الحل الدائم.
2- لبنان وجبهة حزب الله
في الجنوب اللبناني، ظل التوتر بين إسرائيل وحزب الله علامة فارقة في مستوى عدم الاستقرار الإقليمي، مع خروقات متكررة على الحدود وتبادل نيران محدود يُظهر احتمالات اندلاع مواجهة أوسع في أي لحظة.
3- الشمال (سوريا/الجولان)
تمارس إسرائيل غارات جوية متكررة داخل الأراضي السورية، مستهدفة مواقع مرتبطة بحلفائها المحليين أو بإيران، في محاولة لإضعاف قدرات خصومها الإقليمية قبل أن تتبلور إلى تهديد مباشر على أراضيها.
4- العراق واليمن
في العراق، تعرضت مواقع تضم قوات أميركية لقصف متكرر نسبت أجزاء منه إلى فصائل تربطها علاقات مع إيران، مما خلق وضعًا أمنيًا مركبًا له أثر مباشر وغير مباشر على الأمن الإسرائيلي. وفي اليمن، حاول الحوثيون خلال 2024–2025 استهداف خطوط الملاحة في البحر الأحمر، ما أثار تدخلات دولية واسعة وفتح الباب أمام استراتيجيات أمنية بحرية جديدة تؤثر أيضًا في إسرائيل ودول الخليج.
بهذا المعنى، لا يمكن اختزال علاقة إسرائيل بمحيطها في صراع ثنائي فقط؛ بل هي متشابكة في شبكة من الصراعات المتوازية التي تجعلها على الدوام في وضع يتطلب إدارة عوامل أمنية متعددة في وقت واحد.
ثانيًا: الانقسام الداخلي وتراجع المشروع السياسي
ما يميّز إسرائيل في الوقت الراهن ليس قوتها العسكرية فحسب، بل الانقسامات الداخلية العميقة التي تمس جوهر الدولة وهويتها:
1- الهوية اليهودية مقابل الديمقراطية
تستمر النقاشات حول ما إذا كانت إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية فعلًا، خصوصًا مع سياسات الاستيطان في الضفة الغربية، وما يتصل بحقوق الفلسطينيين وحقوق العرب داخل الخط الأخضر، مما يثير تساؤلات حول مفهوم المواطنة والمساواة.
2- السياسات الداخلية المثيرة للجدل
تظهر انقسامات واضحة بين التيارات اليمينية القومية، والتيارات الوسطية، والحركات المدنية التي تنتقد سياسات الحكومة تجاه الأقلّيات وحقوق الإنسان، إضافة إلى الخلافات حول سياسة الهجرة، التعليم، العلاقات مع الفلسطينيين، والاقتصاد.
3- الاستيطان والشرعية الدولية
يُعد الاستيطان في الضفة الغربية من أكبر مصادر التوتر، حيث يُنظر إليه دوليًا على أنه عقبة أساسية أمام أي حل سياسي مستدام للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، فضلاً عن كونه موضوع انتقاد واسع داخل بعض أوساط المجتمع الإسرائيلي نفسه.
وأمام هذه الانقسامات، تبدو إسرائيل غير قادرة بعد على إيجاد مشروع داخلي شامل يمكّنها من تحقيق توافق بين الأمن والسلام والمواطنية المتساوية، ولا يضعها في حالة دفاع دائم عن كيانه السياسي فقط.
ثالثًا: الدعم الغربي والتحولات في السياسة الأميركية
لم تعد علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة علاقة ثابتة دون توترات:
- يشكّل الدعم العسكري والسياسي الأميركي ركيزة أساسية في قدرتها على إدارة ملفاتها الأمنية، لكن التحولات في السياسة الأميركية – عبر الإدارات المتعاقبة أو التغيرات في موازين القوى في الكونغرس – تُؤثر بشكل مباشر في خيارات إسرائيل الاستراتيجية.
- في السنوات الأخيرة، ظهرت مواقف أميركية أكثر تشددًا تجاه بعض السياسات الإسرائيلية، خصوصًا المتعلقة بالاستيطان وحقوق الفلسطينيين، ما زاد من الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإعادة تقييم بعض السياسات الخارجية والداخلية.
بالتالي، فإن إسرائيل لم تعد بمنأى عن تأثير التحولات في واشنطن نفسها، سواء من حيث الأمن المشترك أو الشرعية الدولية، وهو ما يُجبرها على إدارة توازن دقيق بين دعمها الغربي وبين متطلبات سياستها الداخلية والخارجية.
رابعًا: القانون الدولي وموقع إسرائيل في النظام العالمي
يتمحور جزء كبير من التوتر حول إسرائيل في اعتراضات دولية على بعض الممارسات، لا سيما في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة. وتواجه إسرائيل، من هذا المنطلق، عددًا من التحديات القانونية والسياسية:
1- الانتقادات الدولية لسياسات الاستيطان
عدة قرارات دولية ترى في الاستيطان انتهاكًا للقانون الدولي، وهو ما لا تزال الحكومة الإسرائيلية الحالية تتعامل معه بتراخٍ أو رفض صريح.
2- اتهامات بانتهاكات إنسانية خلال النزاعات الماضية
في عدة أوقات، تعرضت إسرائيل لانتقادات حقوقية واسعة تتعلق بكيفية إدارتها للعمليات العسكرية، خصوصًا في غزة.
3- العلاقات مع المحاكم الدولية
بالرغم من رفض إسرائيل لبعض توجهات المحكمة الجنائية الدولية في التحقيقات المرتبطة بالشرق الأوسط، تبقى هذه القضايا جزءًا من سياق أوسع للضغط الدولي نحو مساءلة أكثر وضوحًا.
هذه التحديات القانونية والسياسية تؤثر في قدرة إسرائيل على تسيير علاقاتها الخارجية دون رسوم دبلوماسية أو سياسية، فضلًا عن تأثيرها على علاقاتها مع دول في الاتحاد الأوروبي والجنوب العالمي.
خامسًا: إسرائيل والساحة العربية… من الصراع إلى التحوّلات الإقليمية
لا يمكن فهم مكانة إسرائيل في المشهد العربي بمعزل عن التحولات التي شهدتها المنطقة منذ اتفاقيات اتفاق أبراهام عام 2020، التي شهدت تطبيعًا بين إسرائيل وعدد من الدول العربية (الإمارات، البحرين، المغرب…)، ما مثّل نقطة تحول في ترتيب أولويات بعض الدول العربية.
لكن هذا التحوّل، رغم أهميته، لم يُنتج سلامًا شاملًا بين إسرائيل وجميع دول الجوار أو مع الشعوب في المنطقة، إذ:
- ظلت القضية الفلسطينية محور غضب جماهيري عربي واسع، رغم التطبيع الرسمي مع بعض الدول.
- بقاء الصراع في غزة، استمرار التوسع الاستيطاني في الضفة، ومحدودية التقدم في مسار حلّ سياسي، جعل الكثير من الجماهير العربية ترى التطبيع كـ تسوية تكتيكية لا كـ سلام دائم.
- بعض القوى السياسية في الدول العربية ترى أن التطبيع لا معنى له دون تقدم حقيقي في الحقوق الفلسطينية، ما انعكس على الخطاب السياسي والثقافي في المنطقة.
بهذا الشكل، يتبدّى أن علاقة إسرائيل بالعالم العربي ليست نقطة نهاية للصراع، بل مرحلة انتقالية معقدة قد تُفضي إلى توترات جديدة ما لم تُبنى على أساس حل عادل وشامل.
سادسًا: توصيف استراتيجي لموقع إسرائيل
يمكن تلخيص موقع إسرائيل الحالي في ثلاث مفارقات استراتيجية:
1- قوة عسكرية متقدمة… لكن في بيئة أمنية متعددة الجبهات، لا جبهة واحدة.
2- دعم دولي قوي… لكن توازنات دعم تتبدّل مع تحولات السياسة الأميركية.
3- اتفاقيات تطبيع تاريخية… لكن دون حل جذري مع الفلسطينيين أو استقرار شامل في المنطقة.
خلاصة الفقرة
إسرائيل اليوم ليست دولةً في مأمن من التحديات، لكنها بالتأكيد فاعل محوري في هندسة النظام الإقليمي.
هي قوة عسكرية متقدمة وسياسيًا مؤثرة، لكنها في نفس الوقت محكومة بصراعات داخلية حول هويتها، وتواجه انتقادات دولية تتعلق بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وتدير شبكة علاقات معقدة مع الجيران العرب ودول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا.
في امتحان “العرب بين السقوط والنهضة”، تشكّل إسرائيل المتغير الإقليمي الأكثر ثباتًا نسبيًا في سطح متحرك من التحولات، فما يحدث هناك يؤثر في محيط الشرق الأوسط كله، وما يحدث في المنطقة بدوره يعيد تشكيل خيارات إسرائيل، في علاقات مُعقَّدة بين الأمن والسلام والهوية والسيادة.
11- واشنطن 2026… تأثير مركز القرار على مستقبل الشرق الأوسط والعالم العربي
في عالم تتبدّل فيه موازين القوة بسرعة، تبقى الولايات المتحدة الأميركية واحدة من أكثر الدول تأثيرًا في بنية النظام الدولي. في عام 2026، ستواصل واشنطن - رغم تحوّلات جوهرية في أولوياتها الاستراتيجية - لعب دور محوري في رسم مسارات المنطقة العربية، سواء بشكل مباشر أو عبر تأثيرها على مواقف الحلفاء الإقليميين، من إسرائيل إلى دول الخليج. لهذا، فإن فهم إدارة واشنطن لسياساتها تجاه الشرق الأوسط في استراتيجية الأمن القومي الأميركية الحديثة يعدّ شرطًا أساسيًا لفهم المستقبل العربي بأسره.
أ. إعادة ترتيب أولويات الاستراتيجية الأميركية (2025–2026)
في ديسمبر 2025، أصدرت إدارة الولايات المتحدة وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية (NSS)، التي عكست تحوّلًا مهمًا في أولويات السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا تجاه الشرق الأوسط. فقد بدت وثيقة الأمن القومي لعام 2025 أكثر تركيزًا على:
1- الاقتصاد والتنافس مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا، بدلاً من التدخلات العسكرية المكثفة في الشرق الأوسط.
2- تخفيف التدخل العسكري المباشر وتركيز الجهد الدبلوماسي والتجاري بدلًا من فرض تغييرات سياسية بالقوة.
3- التعاون مع الدول الإقليمية على أساس المصالح المشتركة بدلًا من الضغط على توجهاتها الداخلية.
وتقول الاستراتيجية بوضوح: إن المنطقة الشرق أوسطية لم تعد محور الثقل الأول لسياسة واشنطن، بل صارت جزءًا من منظومة أوسع تتضمن المنافسة مع الصين، مكافحة الجريمة المنظمة، وإعادة توجيه الموارد العسكرية والدبلوماسية نحو جوانب أخرى من السياسات الأميركية.
هذا لا يعني انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، بل يُظهر تحوّلًا في الآليات والأهداف:
- من استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع…
- إلى دعم الشراكات الأمنية والاقتصادية مع دول المنطقة.
- ومن فرض رؤى سياسية … إلى التعامل معها بقدر من الواقعية والمعاملة المتبادلة.
ب. انخفاض أولوية الشرق الأوسط… وتحوُّل الدور الأميركي
بين البنود الملحوظة في الوثيقة:
- تراجع أولوية الشرق الأوسط ضمن السلسلة الهرمية للتهديدات الأميركية مقارنةً بآسيا وأوروبا.
- الاقتصاد، التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي أصبحوا من صلب الأولويات الاستراتيجية، ما يدل على أن واشنطن تسعى لتحويل تركيزها إلى ما وراء ساحات الحروب الطويلة.
هذا لا يعني أن واشنطن ستتجاهل المنطقة؛ بل يعني أنها ستعالج قضاياها بطريقة "واقعية/تجارية" (transactional realism) بدلاً من نهج التغيير الجذري للنظم السياسية أو النهج التدخلي المباشر.
فعلى سبيل المثال، السياسة الأميركية الجديدة تتوقع بأن دولًا إقليمية قوية ومستقرة اقتصاديًا ستكون شريكًا أفضل من فرض سياسات من الخارج على دول تواجه ضغطًا داخليًا قويًا. وهذا يعكس رؤية أكثر تقليلًا للتكلفة وأقل انخراطًا في النزاعات العسكرية، مع تركيز على بناء شبكات تحالفات مرنة توازن بين المصالح الأميركية ومصالح الحلفاء.
ج. ملفات كبرى في الشرق الأوسط وتأثير السياسات الأميركية عليها
1- إيران والبرنامج النووي
القضية الإيرانية ما زالت في قلب اهتمامات المسؤولين في واشنطن، ولكن أسلوب التعامل الأميركي يتغير:
- هناك تمسك أميركي بمنع أي تقدم نحو برنامج نووي عسكري في طهران، وهو ما ظهر في مواقف واشنطن على الساحة الدولية ومفاوضات الأمم المتحدة في أواخر 2025.
- لكن الوثيقة الجديدة لا تشير إلى رغبة في حرب مفتوحة أو تدخل عسكري شامل في إيران، بقدر ما تطرح حلولًا دبلوماسية وشروطًا حول النووي يمكن أن تشارك فيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
2- الصراع العربي–الإسرائيلي والقضية الفلسطينية
لقد تغيّر لهجــــــة السياسيــــــــة الأميركيـــــة نـــحو دعم التحوّلات الدبلوماسية والتحالفات الاقتصادية (مثل اتفاقيات تطبيع أبراهام)، واستبدلت التركيز التقليدي على حل الدولتين بخيارات أكثر عملية وتكتيكية في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.
مع ذلك، لم تختف القضية الفلسطينية كموضوع، لكنها لم تعد مركز القرار كما كان الحال قبل عقود، بل صارت جزءًا من شبكة علاقات أوسع بين الولايات المتحدة وشركائها العرب، خصوصًا في ملفات الاستثمار، الطاقة، والأمن الإقليمي.
3- سوريا واليمن والعراق
في هذه النزاعات، تميل السياسة الأميركية خلال 2026 إلى أن تكون أقل تدخلاً مسلحًا وأكثر تركيزًا على الدعم الدبلوماسي والمؤسسي لمنع تفاقم الأزمات، أو ضمان عدم عودة التوترات إلى ساحات مواجهة مباشرة بين قوى إقليمية كبرى.
وهذا لا يعني تجاهلًا كاملًا للشرق الأوسط، بل إعادة توزيع أدوار بين واشنطن وشركائها الإقليميين، بحيث لا يتحمّل طرف واحد كامل العبء السياسي–الأمني.
د. تأثير الاستراتيجية الأميركية على توازن القوى الإقليمي
إن ما يمكن استنتاجه من السياسة الأميركية الجديدة في 2025–2026 هو أن واشنطن تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
1- احتواء القوى الأخرى (إيران – روسيا – الصين) في الإقليم دون تدخل مباشر.
السياسة الأميركية في هذا الشأن تظهر رغبة في تقليل الارتباط العسكري المباشر وزيادة الاعتماد على الشركاء الإقليميين لتحقيق توازنات القوى.
2- تحويل الشراكات التقليدية إلى شبكات اقتصادية واستثمارية أوسع.
بدلًا من التركيز على التحالفات العسكرية البحتة، تحرص واشنطن على تعزيز العلاقات الاستراتيجية التي تشمل الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا مع دول مثل السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل.
3- التقليل من الأعباء العسكرية الأميركية المباشرة في الشرق الأوسط والتركيز على الملفات الأكثر تأثيرًا في الصراع الأميركي - الصيني أو الأميركي - الروسي في آسيا وأوروبا.
هذا التحوّل الاستراتيجي الأميركي في 2026 يُشكّل قيدًا وحافزًا في آن واحد للدول العربية؛
ـ قيدًا من حيث أنهم لم يعودوا محور الأولوية الأولى لواشنطن،
ـ وحافزًا لأن يبنوا مراكز قوة أو شراكات إقليمية مستقلة يمكن أن تملأ الفراغ الذي قد تتركه واشنطن.
هـ. واشنطن 2026… انعكاسات على العالم العربي
الأسئلة التي يفرضها هذا التحوّل الاستراتيجي على العالم العربي تشمل:
- هل الدول العربية مستعدة لتولي أمنها الإقليمي بإدارة ذاتية أكثر؟
- هل العلاقات مع واشنطن ستتحول إلى علاقات شراكة متكافئة بدلًا من علاقات تبعية أمنية؟
- هل يمكن للشرق الأوسط أن يجد نهجًا سياسيًا جماعيًا يوازِن بين المصالح الأميركية - الإقليمية؟
جوهر هذه التحولات أنه في عام 2026، لم يختفِ الدور الأميركي من الساحة العربية، لكنه لم يعد الدور الوحيد أو الحاسم، بل بات جزءًا من شبكة علاقات متعددة الأقطاب تؤثر في الأمن والسياسة والاقتصاد داخل المنطقة وخارجها.
خلاصة الفقرة
تُظهر السياسة الأميركية في عام 2026 أن واشنطن تسعى إلى إعادة تعريف دورها في الشرق الأوسط من قوة مدافعة وحيدة إلى شريك استراتيجي متعدد الأبعاد يوازن بين مصالحه الداخلية والخارجية.
هذا التحوّل يفرض على العالم العربي إعادة قراءة موقعه في المعادلات الدولية، وتطوير أدواته السياسية والاقتصادية حتى لا يبقى موضوعًا في حسابات الآخرين، بل فاعلًا في صنع مصيره ومستقبل المنطقة.
دعوة للفهم:
واشنطن ليست خارج المسرح العربي… لكنها لم تعد المخرج الوحيد للعرض.
12- من الاحتراق إلى الولادة… الشروط البنيوية لأي نهضة عربية ممكنة
إذا كانت الفقرات السابقة قد رسمت خارطة الجروح والأزمات، فإن السؤال الذي يفرض نفسه في نهاية هذا المسار ليس سؤال الألم، بل سؤال الإمكان: هل يمكن للأمة العربية أن تتحول من واقع الأزمات المتراكمة إلى مشروع نهضة؟
ليس بوصف النهضة حلمًا شاعريًا أو شعارًا إنشائيًا، بل باعتبارها مشروعًا بنيويًا يحتاج إلى شروط سياسية واقتصادية وثقافية ومعرفية واضحة، لا يتحقق منها شيء بالصدفة ولا تمنحه القوى الكبرى مكافأةً لأحد، بل يصنعه الداخل قبل الخارج.
في هذا السياق، تطرح الفقرة الثانية عشرة إطارًا تحليليًا أقرب إلى شروط تأسيس مشروع نهضة عربية حديثة - ليس بالضرورة متطابقًا مع أي نموذج تاريخي أوروبي أو آسيوي، بل نابعًا من طبيعة المجال العربي نفسه. ويمكن تلخيص هذه الشروط في ستة مسارات مركزية:
أولًا: شرط الدولة القادرة قبل الدولة القوية
النهضة لا تحتاج إلى دولة “قوية” بالمعنى الاستبدادي الذي يُراكم أجهزة أمنية ويهمل المجتمع، بل إلى دولة قادرة (State Capacity) تمتلك ثلاث وظائف أساسية:
1- احتكار شرعي للسلاح داخل الحدود.
2- قدرة فعالة على جباية الضرائب وتدويرها في التنمية.
3- منظومة قانون تُطبّق على الجميع لا على البعض.
فشل كثير من المشاريع العربية جاء من التضاد بين الدولة الأمنية والدولة المؤسسية. الأولى تفرض حضورها بالقوة، والثانية تبني حضورها بالشرعية.
النهضة لا تبدأ من القمع باسم الاستقرار، بل من الاستقرار الذي ينتج شرعية.
ثانيًا: عقد اجتماعي جديد بدل تدوير الأنظمة القديمة
لا يمكن لنهضة عربية أن تُبنى على عقد اجتماعي يقوم على:
- المواطن تابعًا لا شريكًا،
- الثروة ميراثًا لا حقًا عامًا،
- الحاكم رأسًا لا مؤسسة،
- والبرلمان ديكورًا لا مساءلة.
النهضة تحتاج إلى شرعية جديدة تستند إلى ثلاثة أعمدة:
- التمثيل السياسي: مشاركة حقيقية وليست صورية.
- عدالة توزيع الموارد: ليس مساواة مطلقة، بل عدالة في الفرص.
- محاسبة السلطة: دولة بلا محاسبة هي مشروع فشل مؤجل.
بهذا المعنى، فإن الدولة العربية الجديدة تبدأ يوم يصبح الناس شركاء في السلطة لا ضيوفًا عليها.
ثالثًا: من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج
النموذج الاقتصادي العربي الأكثر حضورًا منذ منتصف القرن العشرين كان اقتصاد الريع: ثروة تأتي من مورد واحد (نفط/غاز/موقع جغرافي/معونة خارجية)، ثم تُعاد توزيعه داخل المجتمع.
هذا النموذج لم يعد قابلًا للحياة لثلاثة أسباب:
- تحولات الطاقة عالميًا.
- منافسة الأسواق الناشئة (آسيا – أميركا اللاتينية).
- الزيادة السكانية مقابل انكماش الموارد.
البديل ليس “نسخ” نموذج ماليزيا أو كوريا، بل انتقال ممنهج نحو اقتصاد إنتاج، يقوم على:
- التصنيع التدريجي،
- سلاسل توريد إقليمية عربية تكاملية،
- استثمار في التكنولوجيا والمعرفة،
- أمن غذائي ومائي كجزء من الأمن القومي لا قطاع ثانوي.
بدون هذا الانتقال، ستبقى المنطقة العربية سوقًا لمنتجات الآخرين، لا مصنعًا لثروتها.
رابعًا: إصلاح التعليم بوصفه أمنًا قوميًّا
لا تنهض أمة بعقلٍ قديم في عالمٍ جديد.
لذلك يصبح التعليم مشروع أمن قومي لا مشروع وزارة تقليدية.
- تعليم ينتج معرفة لا يكرر محفوظات.
- جامعات تصنع أبحاثًا لا شهادات.
- مناهج تبني عقلًا نقديًا لا عقلًا مطيعًا.
الدول التي تقدمت لم تفعل ذلك لأنها تملك جيوشًا أقوى، بل لأنها انتصرت في معركة العقل قبل أن تنتصر في معركة الحدود.
خامسًا: استقلال القرار الإقليمي… من التبعية إلى الشراكة
النهضة تحتاج إلى هامش سيادة لا يعني القطيعة مع العالم، بل القدرة على التفاوض معه دون تبعية عمياء.
فالعالم اليوم لا يعترف بمن “يطلب”، بل بمن “يعرض”.
ولا يحترم من ينتظر نتائج الانتخابات في واشنطن أو باريس ليحدد مستقبله، بل من يدخل تلك النتائج كعاملٍ ضمن حساباته… لا كقدرٍ يتسلّمه.
إن أخطر ما أصاب المنطقة العربية هو تحويل الخارج إلى مركز قرار والداخل إلى موضوع قرار.
ولا نهضة ممكنة دون استعادة هذه المعادلة إلى مكانها الطبيعي:
الخارج يؤثر… نعم.
لكن الداخل يجب أن يقرر.
سادسًا: الإنسان… الغاية لا الأداة
في كل التجارب التي نجحت، من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى رواندا بعد الإبادة، كان الإنسان هو نقطة البداية ونقطة النهاية.
ويمكن تلخيص المعادلة ببساطة:
- نهضة لا تضع الإنسان في المركز = تحديث بدون روح.
- مشروع حداثة بلا كرامة = إعادة إنتاج الاستبداد بلغة جديدة.
لهذا تصبح الكرامة والحرية والعدالة ليست شعارات، بل مكونات بنية حضارية.
إن لم تعد “إنسانية المواطن” هي المعيار، فكل حديث عن النهضة يصبح هندسة شكلية فوق أرض منهارة.
خلاصة الفقرة
لسنا أمام أمنية ولا خطبة ولا بيان.
نحن أمام شروط موضوعية إذا تحققت اقتربنا من النهضة، وإذا غابت بقينا في الفراغ بين السقوط والولادة.
النهضة لا تحتاج معجزة، بل تحتاج قرارًا:
- قرار أن تكون الدولة دولة، لا ظل رجل.
- أن تكون الثروة ثروة وطن، لا ملكية نخبة.
- أن تكون الجغرافيا مشروعًا، لا قدرًا مكتوبًا.
- أن تكون السياسة عقدًا، لا غنيمة.
وبهذا، تصبح النهضة خيارًا إراديًا لا حدثًا عابرًا.
الخاتمة: هل نخرج من عنق الزجاجة؟ بين السقوط والنهضة… قرار لا انتظار
نحن أمام لحظة عربية لم تعد تشبه ما قبلها؛ لحظة تقف فيها الأمة كما لو أنها على درجٍ مكسور: خطوة إلى الأعلى تؤدي إلى نهضة ممكنة، وخطوة إلى الخلف تعيدنا إلى هاوية خبرناها كثيرًا. بعد استعراض ما حدث في فلسطين وغزة والضفة الغربية، وفي لبنان وسوريا واليمن والسودان وليبيا والعراق، ثم فهم موقع إسرائيل كفاعل إقليمي مؤثر، وأخيرًا إدراك أثر واشنطن وتحولاتها الإستراتيجية في 2026، يصبح السؤال المركزي أكثر وضوحًا وجرأة:
هل نحن مستعدون للخروج من عنق الزجاجة… أم أننا نُجيد الاعتياد على ضيق المكان؟
هذه ليست خاتمة لتسكين الوجع، بل محاولة لتثبيت أطروحة، مفادها أن ما يمنع النهضة ليس غياب الإمكان، بل غياب القرار. وأن أكبر مأزق عربي اليوم ليس في أن الآخرين يصنعون لنا أقدارنا، بل في أننا تركنا الساحة شاغرة بما يكفي ليصنعها الآخرون.
أولًا: اللحظة العربية ليست لحظة هزيمة… بل لحظة انكشاف
ما يحدث ليس نهاية التاريخ العربي، بل نهاية وهم الإدارة القديمة للزمان. لقد كشف العقد الأخير هشاشة البنى السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة، لكنه في الوقت ذاته كشف أن الشعوب ما زالت تحتفظ بطاقة حياة لا تمتلكها الحكومات.
إن الشارع الذي يهتف لغزة، واللاجئ الذي يصر على البقاء إنسانًا، والمواطن الذي يتشبث بحقه في دولة عادلة… كلهم يؤكدون أن الهزيمة ليست قدرًا بل عَرَض تاريخي.
ثانيًا: الضعف ليس جغرافيًا… بل وظيفي
لم تخسر الأمة لأنها أصغر من غيرها، ولا لأنها أفقر بشكل مطلق، ولا لأنها أقل ذكاءً أو معرفة.
خسرت لأنها تخلت عن الفعل واكتفت بالرد، تخلت عن المبادرة واكتفت بالانتظار.
كلما سمحنا لواشنطن وموسكو وبكين ولندن وتل أبيب وأنقرة وطهران أن يكونوا “مركز القرار”، أصبحنا أطرافًا في قصة لم نكتبها.
والأمم التي لا تكتب قصتها… تصبح هامشًا في كتب الآخرين.
ثالثًا: لا نهضة دون ثلاث مفاتيح تأسيسية
بعد هذا البحث التحليلي، تتضح ثلاثة شروط لا بديل عنها:
1- استرداد مفهوم الدولة: دولة مؤسسات لا أشخاص، قانون لا مزاج، شرعية لا غلبة.
2- تحرير الوعي العربي من ثنائية الضحية أو التابع: فالاستقلال النفسي سابق على الاستقلال السياسي.
3- إعادة تعريف القوة: من القوة العسكرية وحدها… إلى القوة الاقتصادية والمعرفية والبحثية والدبلوماسية.
نهضات العالم لم تُبنَ على الخطب، بل على موازين قوى جديدة.
رابعًا: مصير غزة ليس قضية محلية… بل مرآة وجودية
لقد تجاوزت غزة كونها جرحًا فلسطينيًا إلى أن أصبحت امتحانًا أخلاقيًا للعالم، وامتحانًا حضاريًا للعرب أنفسهم.
فإن عجزنا عن تحويل الألم إلى مشروع، وعن تحويل المأساة إلى برنامج سياسي، فسنكون شهودًا على فصل أليم… بدل أن نكون مؤلفيه.
غزة ليست نهاية السؤال…
غزة بداية السؤال.
خامسًا: واشنطن 2026… لحظة اختبار العرب لأنفسهم
إن التحول الأميركي في 2026 لا يجب أن يُخيفنا بقدر ما يجب أن يوقظنا؛ لأن انسحاب واشنطن من الدور المركزي في المنطقة، أو إعادة تعريفه، يعني ببساطة:
إما أن يملأ العرب الفراغ… أو أن يملأه غيرهم.
وهذه هي اللحظة التي نكون فيها أمام خيارين:
إما أن نبقى “نتلقى” السياسة من الخارج،
أو نتحول إلى “منتجين” لها.
سادسًا: هل نخرج الآن؟
الخروج من عنق الزجاجة ليس لحظة انفجار، بل مسار قرار يبدأ من سؤال:
- هل نريد وطنًا أم نكتفي بخطاب عنه؟
- هل نريد دولة أم نرضى بظلها؟
- هل نريد نهضة… أم نكتفي بالحديث عن النهضة؟
إذا كان الجواب نعم…
فالطريق ليس سهلًا، لكنه موجود، ونافذته قد لا تبقى مفتوحة طويلًا.
العبارة الختامية
الأمم لا تنهض لأن الظروف ساعدتها…
بل لأن وعيها قرر ألا ينتظر الظروف.
العالم العربي اليوم لا يحتاج سماء جديدة ليطير…
بل يحتاج قرارًا جديدًا بأن يفتح جناحيه.
* طيار عربي حلق فوق مدنٍ مدمرة وقلوبٍ تنبض، ورأى أن الأمة لا تحتاج معجزة… بل تحتاج أن تتوقف عن تأجيل نفسها.