لم يعد الحديث عن الترانسفير في السياق لدولة الاحتلال مجرّد هواجس فلسطينية أو حتى أردنية، بل بات أحد المخرجات المنطقية لتراكم سياسات الاحتلال على مدى عقود، فدولة الاحتلال، وإن لم تُعلن رسميًا تبنّيها لسياسة تهجير الفلسطينيين، إلا أن ممارساتها على الأرض تكشف مقاربة ممنهجة تقوم على خلق بيئة طاردة تجعل البقاء مستحيلًا، والهجرة خيارًا قسريًا مغلّفًا بعباءة “الطوعية”، أي دفع الفلسطينيين قسراً نحو الأردن، وفي هذه السطور المقتضبة نحاول تقديم عرض تحليلي لمقاربة دولة الاحتلال للترانسفير ودفع الفلسطينيين نحو الأردن، في إطارها التاريخي والسياسي والقانوني، مع ربطها بالسياق الراهن، فإذا ما تحدثنا عن مفهوم الترانسفير في الفكر والممارسة لدولة الاحتلال، نقول إن الترانسفير يعني نقل السكان قسريًا أو “طوعيًا تحت الإكراه” من أرضهم إلى مكان آخر، في السياق لدولة الاحتلال، لم يكن الترانسفير فكرة طارئة، بل ظهر مبكرًا في بعض أدبيات الحركة الإسرائيلية، ثم تجسد عمليًا في مراحل عدة؛ نكبة 1948 (التهجير الجماعي الممنهج للفلسطينيين)، ونكسة 1967 (نزوح جديد، خاصة من الضفة الغربية)، وسياسات لاحقة هدفت إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين أو تقليص وجودهم، وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي لدولة الاحتلال ينفي تبني الترانسفير، إلا أن الممارسات على الأرض تعكس منطقًا قريبًا منه.
وإذا ما تعرضنا للأدوات غير المباشرة لدفع الفلسطينيين نحو الأردن، فتعتمد دولة الاحتلال اليوم مقاربة غير معلنة للترانسفير، تقوم على خلق بيئة طاردة بدل التهجير القسري المباشر، ومن أبرز أدواتها؛ التضييق المعيشي والاقتصادي، مثل تقييد الحركة، والحواجز، والتحكم بالموارد، ومثل خنق الاقتصاد الفلسطيني ومنع التنمية المستدامة، ومثل سياسات الإفقار التي تجعل الهجرة خيارًا “أقل سوءًا”، ومن تلك الأدوات أيضاً الاستيطان وتفتيت الجغرافيا، ومثل التوسع الاستيطاني الممنهج في الضفة الغربية، ومثل تقطيع أوصال المدن والقرى الفلسطينية، ومثل استحالة قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ما يدفع نحو البحث عن بدائل خارج الأرض، ومن تلك الأدوات سحب الهويات ولمّ الشمل؛ مثل سحب الإقامات في القدس، ومثل تعطيل لمّ شمل العائلات، ومثل تحويل الوجود الفلسطيني إلى حالة مؤقتة وهشة، ومن الأدوات أيضاً التصعيد الأمني والعسكري؛ مثل عمليات عسكرية متكررة، ومثل خلق شعور دائم بعدم الأمان، ومثل الاستنزاف النفسي والاجتماعي طويل الأمد.
ونتعرض أيضاً إلى موضوع الأردن كـ«خيار مُفترض» في الرؤية لدولة الاحتلال، في بعض الأوساط السياسية والفكرية لدولة الاحتلال (خاصة اليمين المتطرف)، يُنظر إلى الأردن باعتباره الوطن البديل للفلسطينيين، واعتباره الحل الديمغرافي للصراع، واعتباره مساحة يمكن “تصريف” فائض السكان الفلسطينيين إليها دون كلفة سياسية مباشرة، وهذه الرؤية تتجاهل سيادة الأردن وهويته الوطنية، وهذه الرؤية تُحمّل الأردن أعباءً سياسية واقتصادية وأمنية غير مشروعة، وهذه الرؤية تشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي.
ونتعرض أيضاً إلى محور مهم وهو محور البعد القانوني الدولي، فالمقاربة لدولة الاحتلال هذه تنتهك بوضوح القانون الدولي، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة (حظر النقل القسري للسكان)، وكذلك حق الشعوب في تقرير المصير، بالإضافة إلى حظر التهجير القسري والتغيير الديمغرافي، وحتى الترانسفير “الطوعي” إذا تم تحت الضغط أو الإكراه غير المباشر يُعد جريمة دولية (فلا يتصور منطقاً أن يكون طوعياً وهو قسري)، فالترانسفير، بمعناه القانوني والسياسي، لا يقتصر على النقل القسري المباشر للسكان، بل يشمل أيضًا كل السياسات التي تُمارَس بهدف دفع جماعة بشرية إلى مغادرة أرضها تحت الضغط الاقتصادي أو الأمني أو الاجتماعي، ومن هذا المنظور، فإن السياسات للاحتلال في الضفة الغربية والقدس الشرقية تشكّل نموذجًا كلاسيكيًا للترانسفير غير المعلن.
ونتعرض إلى محور مهم وهو محور الموقف الأردني، فالمملكة الأردنية الهاشمية ترفض بشكل قاطع أي شكل من أشكال الترانسفير، وترفض فكرة الوطن البديل، وترفض تحميله نتائج الاحتلال، وبالنتيجة تؤكد باستمرار أن حل القضية الفلسطينية يجب أن يكون على الأرض الفلسطينية، وتؤكد على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة هو الضمانة الوحيدة للاستقرار، كما تؤكد على أن أمن الأردن مرتبط عضويًا بحقوق الشعب الفلسطيني، وأمام هذه المعادلة، يبرز الموقف الأردني الرافض بشكل قاطع لأي شكل من أشكال الترانسفير أو الوطن البديل، باعتباره موقفًا دفاعيًا عن السيادة الوطنية بقدر ما هو التزام أخلاقي وسياسي تجاه الحقوق الفلسطينية، فالأردن يدرك أن أي حل يُفرض على حسابه لن يكون حلًا، بل وصفة مفتوحة للفوضى وعدم الاستقرار.
وأخيراً نتعرض إلى محور "السياق الراهن وخطورة المرحلة" في ظل صعود اليمين المتطرف في دولة الاحتلال، وفي ظل الحديث العلني لبعض المسؤولين في دولة الاحتلال عن التهجير، وفي ظل الحروب والتصعيد الإقليمي، وتتحول المقاربة لدولة الاحتلال للترانسفير من خيار نظري إلى سياسة محتملة تُنفذ تدريجيًا وبأدوات ناعمة، ما يستدعي بالضرورة يقظة سياسية ودبلوماسية أردنية، ويستدعي تحركًا عربيًا ودوليًا فاعلًا، ويستدعي أيضاً توثيقًا حقوقيًا مستمرًا لهذه السياسات.
خلاصة القول إن مقاربة دولة الاحتلال لدفع الفلسطينيين نحو الأردن ليست سياسة معلنة، لكنها نتيجة منطقية لتراكم سياسات الاحتلال، وهي تشكل خطرًا مزدوجًا على الحقوق الوطنية الفلسطينية، وعلى الأمن الوطني الأردني، وبالتالي فإن مواجهتها تتطلب ربط المسار السياسي بالمسار الحقوقي والقانوني، وتثبيت معادلة واضحة تتضمن أن لا حل على حساب الأردن، وتتضمن أن لا سلام دون إنهاء الاحتلال، وتتضمن تمكين الفلسطينيين من حقهم في دولتهم، وإن خطورة المرحلة الراهنة تكمن في تلاقي السياسات لدولة الاحتلال مع صعود خطاب علني يشرعن التهجير، مستفيدًا من صمت دولي وعجز النظام الدولي عن إنفاذ قواعده، وهذا ما يجعل من مواجهة مقاربة الترانسفير مسؤولية سياسية وحقوقية وإعلامية، تتطلب توثيق الانتهاكات، وتفعيل أدوات القانون الدولي، وبناء موقف عربي ودولي واضح يربط بين إنهاء الاحتلال ومنع التهجير، وبالمحصلة، ليست المقاربة لدولة الاحتلال لدفع الفلسطينيين نحو الأردن سياسة طارئة، بل امتدادًا تاريخيًا لمشروع لم يُحسم بعد، ومواجهتها لا تكون بالمعالجات الجزئية، بل بتثبيت معادلة جوهرية مفادها أن لا حل للقضية الفلسطينية خارج فلسطين، وأن لا سلام حقيقي على حساب الأردن.