الشرق الأوسط القديم مات… هل نملك شجاعة ولادة الجديد؟
د. محمد بني سلامة
30-12-2025 01:04 AM
ليس توصيفًا إنشائيًا ولا مبالغة صحفية أن نقول إن الشرق الأوسط القديم قد مات. مات بهدوءٍ ثقيل، بلا جنازة تليق بتاريخه، وبلا مشروع يولد من رحمه. نحن أمام لحظة فاصلة تُقاس بالساعات لا بالسنوات؛ خلال اثنتين وسبعين ساعة فقط سنغلق حسابات عام 2025، لكن المنطقة لن تغلق حساب فشلها، ولا دفاتر خيباتها المتراكمة. سيبدأ الشرق الأوسط عامًا جديدًا، لا محمّلًا بالأمل، بل مثقلًا بالتحولات والارتباك والفراغ، من إيران إلى المغرب العربي، مرورًا بسوريا والعراق واليمن وليبيا، حيث تتشابه المآسي وتختلف الأسماء، وحيث تبدو الجغرافيا وكأنها تبحث عبثًا عن معنى الدولة، وعن فكرة جامعة تبرر استمرارها.
اليوم اندلعت احتجاجات في أنحاء إيران، وإيران التي طالما صدّرت أزماتها إلى محيطها تبدو هذه المرة أقل قدرة على التحكم بالإيقاع، وأكثر انكشافًا أمام أزماتها الداخلية. النظام الإيراني أعجز مما كان قبل عام، أقل تماسكًا، وأكثر توترًا، وربما بدأ رحلة التفكك البطيء، ذلك التفكك الذي لا يحتاج إلى ثورة كبرى بقدر ما يحتاج إلى تراكم الخوف داخل السلطة وفقدان اليقين. ومع ذلك، فإن التركيز المفرط على إيران وحدها يخفي حقيقة أعمق: أزمة الإقليم لم تعد أزمة لاعب بعينه، بل أزمة بنية كاملة، تتداعى أطرافها من الداخل قبل أن تُستهدف من الخارج.
وفي الأمس، وقّعت إسرائيل واليونان وقبرص اتفاقًا أمنيًا تاريخيًا يُرسّخ تحالف شرق المتوسط، في مشهد يختصر مفارقة الزمن العربي. الآخرون يخططون، يرسمون، ويتحالفون، بينما العرب يكتفون بالمراقبة، أو بالاعتراض المتأخر، أو بتبادل الاتهامات. إسرائيل تُحكم تطويق المنطقة من شمالها إلى جنوبها، لا بالصخب ولا بالخطابة، بل بهدوء الاتفاقات، وببرود الحسابات الاستراتيجية، فيما العواصم العربية منشغلة بصراعاتها الداخلية أو بخوفها من شعوبها أكثر من خوفها على مستقبلها، وكأن أمن النظم بات أولوية تتقدم على أمن الأوطان.
هذا الأسبوع اعترفت إسرائيل بأرض الصومال، في خطوة تعيد رسم الخريطة الاستراتيجية للقرن الإفريقي، وتؤكد أن الصراع لم يعد يدور فقط حول فلسطين أو حدود المشرق العربي، بل حول الممرات البحرية، والموانئ، ونقاط الاختناق في البحر الأحمر والمحيط الهندي. الاعتراف هنا ليس تعاطفًا ولا صدفة، بل استثمارًا ذكيًا في فراغ عربي مزمن، فراغ صنعناه نحن حين تخلينا عن أطرافنا قبل أن نتخلى عن مراكزنا، وحين تركنا القرن الإفريقي ساحة مفتوحة لتقاطعات دولية وإقليمية لا ترى في العرب سوى مساحة غائبة.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل مطامح إثيوبيا ومشاريعها المتسارعة في القرن الإفريقي، من السعي إلى إعادة تعريف دورها الجيوسياسي، إلى محاولات فرض معادلات جديدة في قضايا المياه والموانئ والنفوذ الإقليمي. إثيوبيا تتحرك بثقة دولة تخطط للمستقبل، وتبني مشاريعها على المدى الطويل، بينما العرب غارقون في خلافاتهم، يختلفون على الأولويات، أو يؤجلون المواجهة مع واقع يتغير بسرعة لا تنتظر المترددين.
الشرق الأوسط القديم ينهار، نعم، ولكن الحقيقة الأكثر إيلامًا أن العرب ساهموا في هذا الانهيار. ساهموا بالصمت حين كان الكلام واجبًا، وبالانقسام حين كان التماسك ضرورة، وبإجهاض أي مشروع نهضوي جامع قبل أن يولد. غاب المشروع العربي الكبير، فتحولت الدولة إلى عبء، والهوية إلى سلاح، والسياسة إلى إدارة أزمات بلا أفق. وفي غياب المشروع، تسللت المشاريع الأخرى، أكثر تنظيمًا، وأكثر صبرًا، وأكثر قدرة على التخطيط، بينما اكتفى العرب بردود الفعل، أو بالعيش على هامش ما يصنعه الآخرون.
الفصل التالي لم يُكتب بعد، لكن كل المؤشرات تقول إنه قد يكون أكثر خطورة على المصالح العربية من أي مرحلة سابقة. وهنا تبرز سوريا بوصفها العقدة الأخطر والأكثر دلالة. ما يحدث في سوريا اليوم لا يمكن قراءته فقط بوصفه صراعًا داخليًا أو تسوية مؤجلة، بل بوصفه مختبرًا لإعادة رسم الخرائط. الخطر الحقيقي أن تكون سوريا بداية لسايكس – بيكو جديد، لا يُعلن في اتفاقيات رسمية، بل يُفرض عبر الوقائع الميدانية، ومناطق النفوذ، وتعدد السلطات، وتحويل الدولة إلى جغرافيا متنازع عليها. فإذا نجح هذا النموذج، فلن يبقى محصورًا في سوريا، بل قد يمتد إلى دول عربية أخرى أنهكها الصراع والانقسام.
في هذا المشهد المأزوم، تعيد تركيا فرض نفوذها في الإقليم بمنطق القوة الناعمة حينًا والصلبة حينًا آخر، بينما يبرز الدور القطري بوصفه استثناءً نسبيًا في المشهد العربي؛ دور يقوم على دبلوماسية الوساطة النشطة، ومحاولة إدارة التناقضات بدل الاستسلام لها، وفتح قنوات الحوار في أكثر الملفات تعقيدًا. قد يختلف البعض مع أدوات هذا الدور أو نتائجه، لكنه يظل تعبيرًا عن إدراك سياسي بأن الغياب الكامل أكثر كلفة من الحضور، وأن الفراغ لا يبقى فارغًا طويلًا.
في المقابل، تبني إسرائيل علاقات مع الأقليات في الشرق، وتحوّل هذا الانفتاح إلى أداة ضغط وابتزاز، وتمارس سياسة استنزاف ممنهجة للدول العربية من سوريا إلى لبنان، مرورًا باليمن، وصولًا إلى أرض الصومال والسودان. إنها سياسة لا تعتمد على الحرب المباشرة، بل على إنهاك الدول من الداخل، واستثمار هشاشتها، وتحويل تنوعها إلى نقطة ضعف بدل أن يكون مصدر قوة، في ظل غياب عربي شبه كامل عن صياغة استراتيجية مواجهة شاملة.
وفي الخلفية، يلوح شبح التقسيم، لا كتحليل أكاديمي ولا كتهويل إعلامي، بل كاحتمال واقعي، تغذّيه الانقسامات الطائفية والمناطقية، وتسرّعه الانهيارات الاقتصادية، وتُباركه نخب سياسية عربية مفلسة، فقدت القدرة على التخيل كما فقدت القدرة على القيادة. شبح تقسيم أربع دول عربية يطل من الأفق، ومعه نذر الحرب الأهلية، حيث تصبح الدولة ساحة صراع، والمجتمع حطامًا، والمستقبل رهينة للماضي.
ولا يمكن فصل كل ذلك عن إخفاق النظم السياسية العربية في قراءة واقعها واستشراف مستقبلها. هذه النظم التي أغلقت المجال العام، وأضعفت المؤسسات، وحاصرت السياسة بدل تطويرها، تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية هذا الانهيار. الديمقراطية لم تتراجع عربيًا فقط، بل تشهد تراجعًا على الصعيد العالمي، مع صعود الشعبوية، وتآكل الثقة بالمؤسسات، وانكشاف عجز النخب التقليدية. غير أن الفارق المؤلم أن كثيرًا من المجتمعات تناقش أزماتها بشجاعة، بينما ما زال العالم العربي يهرب من الاعتراف بأزمته، أو يختزلها في شماعة الخارج.
نحن مقبلون على عام تتبلور فيه تحالفات إقليمية جديدة، وتُعاد فيه كتابة موازين القوة، فيما العالم العربي يقف على الهامش، يراقب، يتألم، ويسخر أحيانًا من نفسه لأنه يعرف الحقيقة ولا يملك الشجاعة لمواجهتها. سنة جديدة سعيدة؟ ربما كعبارة بروتوكولية، لكن السعادة لا تولد في الفراغ، ولا تزدهر في غياب المشروع، ولا تُبنى على أنقاض دولة متهالكة ونخب منهكة.
الشرق الأوسط القديم مات، لكن المأساة ليست في موته، بل في أننا لم نُحضّر لولادة ما بعده. وبين حزن الواقع وسخرية التاريخ، يبقى السؤال معلقًا: هل نملك إرادة الخروج من هذا التيه، أم سنكتفي بدور الشاهد الحزين على زمنٍ ضيّعناه بأيدينا؟.
سنة جديدة سعيدة… إن كان في الخسارة ما يكفي لنتعلم، وفي الانكسار ما يكفي لنراجع، وفي هذا الليل الطويل ما يكفي لندرك أن الفجر لا يأتي لمن ينتظره، بل لمن يصنعه.
مع خالص العزم..