بعد الكارثة… حين يكثر الحكماء ويغيب الفعل
محمد مطلب المجالي
31-12-2025 02:53 PM
ما إن تقع المصيبة أو تحلّ الكارثة، أياً كان نوعها؛ بيئية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، حتى تمتلئ الصفحات وتضجّ الشاشات، ويخرج علينا فجأة جيش من المنظّرين والمحللين، يوزّعون التشخيصات ويقترحون الحلول، وكأنهم كانوا شركاء في صناعة القرار أو شهوداً على كل تفاصيل المشهد منذ بدايته. بعد فوات الأوان يصبح الجميع خبراء، تُستعاد الأخطاء بجرأة، وتُشرح الأسباب بثقة، وتُقدَّم الوصفات الجاهزة بلغة قطعية لا تحتمل النقاش، وكأن الكارثة لم تكن سوى مادة استعراض موسمية لاصطياد الأضواء.
غير أن الخلل الحقيقي لا يكمن في كثرة الكلام بقدر ما يكمن في توقيته. فالصوت الذي يعلو بعد الانهيار، كان صامتاً قبل السقوط، أو متردداً عند التحذير، أو غائباً حين كان القرار يُصنع، وحين كانت الفرصة قائمة لتجنّب الخسائر أو تقليلها. وهكذا يتحوّل التحليل المتأخر إلى شجاعة مجانية، لا تُنقذ واقعاً ولا تُصلح خللاً.
ما نشهده اليوم هو تضخّم في الخطاب يقابله فقر في الفعل؛ تحليل بلا مسؤولية، ونقد بلا التزام، وحلول تُطرح من خارج المشهد الحقيقي، لا تراعي تعقيد الواقع ولا كلفة التنفيذ، ولا تدرك أن إدارة الأزمات لا تُدار بالمنشورات ولا تُحلّ بالتصريحات المتأخرة. وفي خضم هذا الضجيج، يضيع صوت العقل الهادئ، وتُهمَّش المراجعة الجادّة، ويغيب السؤال الأهم: أين كنتم قبل أن تقع الكارثة؟ من حذّر؟ ومن تجاهل؟ ومن اتخذ القرار؟ ومن تحمّل المسؤولية؟
إن المجتمعات لا تنهض بكثرة الحكماء بعد الكوارث، بل بندرة الصادقين قبلها، ولا تُبنى الأوطان بتحليل ما حدث فقط، بل بالقدرة على التعلّم والمحاسبة ومنع التكرار، وبوضع الإنسان في صدارة القرار لا في ذيل الخسائر. فبعد كل مصيبة، لا نحتاج إلى مزيد من “اللقمانيين” على الشاشات، بل إلى حكماء في الميدان، يسبقون الحدث لا يلحقونه، ويصنعون الوقاية قبل أن نُجبر جميعاً على البكاء على ما كان يمكن تجنّبه.