الحقوق الرقمية في عالم متغير
د. حمزة العكاليك
22-01-2025 09:23 AM
في عام 1996، كتب جون بيري بارلو "إعلان استقلال الفضاء السيبراني"، متأثرًا بإعلان استقلال الولايات المتحدة. فقد كان بارلو يعبر عن رؤية مثالية لشبكة الإنترنت كفضاء حر مستقل عن سيطرة الدول. ولكن بعد ثلاثة عقود، أصبحت الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، مما أدى إلى ظهور مفهوم جديدالا وهو الحقوق الرقمية. هذه الحقوق لم تعد مجرد امتداد لحقوق الإنسان التقليدية، بل أصبحت ضرورة في عالم يتشكل بشكل متزايد من خلال التكنولوجيا.
وبالنظر الى مفهوم الحقوق الرقمية فهي مجموعة من الحقوق التي تحمي الأفراد في العالم الرقمي، حيث أصبح لكل منا وجود رقمي لا ينفصل عن وجوده الواقعي. هذا الوجود الرقمي يشمل بياناتنا الشخصية، حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى أنشطتنا الاقتصادية والاجتماعية عبر الإنترنت. ببساطة، نحن نعيش في عالم رقمي موازٍ للعالم الواقعي، وهذا العالم الجديد يتطلب حماية جديدة لحقوقنا.
ولقد بدأت فكرة الحقوق الرقمية مع انتشار الإنترنت في التسعينيات. حيث كان رواد الإنترنت الأوائل يحلمون بفضاء رقمي حر ومستقل، لكن الواقع أثبت أن هذا الحلم يحتاج إلى إطار قانوني لحماية الأفراد من انتهاكات الخصوصية، الرقابة، والاستغلال. ومع الوقت، ظهرت مبادرات مثل "ميثاق حقوق الإنترنت" في عام 2001، و"المبادرة العالمية للشبكة" في عام 2008، والتي سعت إلى وضع مبادئ لحماية حقوق المستخدمين.
وفي عام 2012، أعلن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن الوصول إلى الإنترنت هو حق إنساني. هذه الخطوة كانت بداية الاعتراف الدولي بالحقوق الرقمية كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان.
وتقوم الحقوق الرقمية على قيم أساسية مستمدة من حقوق الإنسان، مثل الحرية، المساواة، والخصوصية. لكنها تضيف بعدًا جديدًا يتمثل في الكونية وعبر الحدود. ففي العالم الرقمي، لا تعترف الحقوق بالحدود السياسية، مما يتطلب إطارًا عالميًا لحمايتها.
من أهم المبادئ التي تقوم عليها الحقوق الرقمية: الخصوصية والتي تنظم حماية البيانات الشخصية من الاستغلال والمراقبة. واما حق حرية التعبير في العالم الرقمي فهو يسعى كما في العالم الواقعي الى ضمان حق الأفراد في التعبير عن آرائهم دون رقابة.
واما الحق الثالث والذي يعتبر من اهم الحقوق الرقمية فهو حق الوصول إلى الإنترنت وذلك لضمان حق الجميع في الوصول إلى شبكة الإنترنت بأسعار معقولة وجودة عالية. كما ان حق الحيادية الرقمية يعتبر من الحقوق الاصيله التي تسعى هذه المواثيق الى الحفاظ عليها وهذا الحق ضروري ل منع التمييز في الوصول إلى المحتوى أو الخدمات الرقمية.
فحق الوصول إلى الإنترنت يعتبر اليوم ضرورة حياتية، مثل الكهرباء والماء. بدون الإنترنت، يصبح من الصعب الحصول على التعليم، العمل، أو حتى التواصل الاجتماعي. لذلك، يجب أن يكون الوصول إلى الإنترنت حقًا أساسيًا لكل فرد، بغض النظر عن موقعه الجغرافي أو وضعه الاقتصادي.
كما انه مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا، أصبحت خصوصيتنا أكثر عرضة للانتهاك. فالبيانات التي نشاركها على الإنترنت يمكن استخدامها ضدنا، سواء من خلال المراقبة أو الاستغلال التجاري. لذلك، يجب أن تكون هناك قوانين صارمة تحمي بياناتنا الشخصية وتضمن لنا السيطرة عليها. ولذلك شرعت العديد من الدول ومنها الاردن قوانين لحماية البيانات الشخصية لضمان التعامل الامثل مع بيانات المستخدمين.
وفي حين أن الإنترنت وفرت مساحة واسعة لحرية التعبير، إلا أنها أيضًا أصبحت ساحة للرقابة والتحكم. فمنصات التواصل الاجتماعي تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لإدارة المحتوى، مما يؤدي أحيانًا إلى حجب محتوى مشروع أو تعليق حسابات دون مبرر. لذلك، يجب أن تكون هناك ضمانات لحماية حرية التعبير في الفضاء الرقمي وكذلك لضمان ان لا يتعدى الافراد على حريات الاخرين تحت دعوى الحفاظ على حرية التعبير .
ومع تزايد أهمية وجودنا الرقمي، أصبحت الحاجة إلى هوية رقمية موثوقة أكثر إلحاحًا. وهذه الهوية يجب أن تحمي بياناتنا الشخصية وتضمن لنا الحق في التحكم في وجودنا الرقمي.
الا انه هناك العديد من التحديات التي تواجه الحقوق الرقمية فرغم التقدم في الاعتراف بالحقوق الرقمية، إلا أن هناك تحديات كبيرة تواجهها واهم هذه التحديات هي الرقابة الحكومية: فبعض الدول تفرض قيودًا على الوصول إلى الإنترنت أو تحجب مواقع معينة.
والتحدي الاخر هو استغلال البياناتف الشركات التكنولوجية الكبرى تحقق ارباح هائلة من البيانات الشخصية دون موافقة واضحة من المستخدمين. فمثلاً شركتين من شركات التكنولوجيا وهما امازون و جوجل حققتا على التوالي من البيانات الضخمة 514 مليار و 280 مليار بمجموع 794 ملياردولار وهو اكثر مما حققته ثلثي دول اوبك بما فيها العربية السعودية من انتاج النفط حيث حققت هذه الدول 622 مليار دولار دول اوبك من انتاج النفط حققت عام 2021.
واما فيما يتعلق بعدم المساواة الرقمية فلا يزال ملايين الأشخاص حول العالم يفتقرون إلى الوصول إلى الإنترنت أو التكنولوجيا الرقمية وهو ما يسعى ايلون ماسك الى استغلاله من خلاله تقديم هذه الخدمه بواسطة بث الانترنت من خلال الاقمار الصناعية.
الحقوق الرقمية ليست مجرد امتداد لحقوق الإنسان، بل هي ضرورة في عالم يتشكل بشكل متزايد من خلال التكنولوجيا. فيجب أن نعمل على تعزيز هذه الحقوق وحمايتها من خلال تشريعات محلية ودولية تلزم الدول والشركات باحترامها. فقط من خلال ضمان الحقوق الرقمية يمكننا أن نخلق عالمًا رقميًا يعكس قيم الحرية، المساواة، والعدالة التي لا بد من العمل من أجلها في العالم الواقعي.