أواخر الثمانينات، كنت أعيش حياة محاطة بحلمٍ لم يتحقق بعد. كنت أكتب، وأبني عوالم خيالية على الورق، حتى أصبحت الأحرف أصدقاء لي في تلك الأيام. ذات صباح مشرق، قررت أن أكتب مسرحية، وقد شعرت بشغف غريب يدفعني لتخليص الأفكار المتناثرة في عقلي، وأن أتركها حية على الورق، لتعيش في الزمن والمكان الذي سأصنعه.
ذهبتُ إلى قاع المدينة، حيث كان المحل الصغير الذي يؤجر الآلات الكاتبة القديمة ورأيت فيه اشكالا والوانا من الآلات التي انبهرت بها ، انذاك اتذكر اني كنت قرأت لاحد الكتاب الاجانب وهو يطبع على الآلة الكاتبة فأعجبني ذلك ، كانت الآلة تختزن في قلبها أصوات العصور الماضية. الشوارع هناك كانت مزدحمة بالضجيج وسرفيس العبدلي يصطف كعقد المسبحة في ذلك المكان، والأنفاس المتسارعة للناس الذين يحملون أعباء الحياة الثقيلة ويذهبون الى اعمالهم مرهقين. لكنني كنت مختلفًا عنهم في تلك اللحظة، كنت أحمل حلمًا بين يديّ، وكان يجب أن أتركه على الورق بكل سرعة ممكنة.
استأجرتُ الآلة الكاتبة ليوم واحد فقط وبأجر زهيد جدا، واصطحبت صديقي الذي كان سريعًا في الطباعة، أسرع مني بمراحل، كأن أصابعه تدرك الكلمات قبل أن تصل إليها عيناه. كانت تلك الآلة تتناغم مع أصوات أصابعه، كأنها آلة موسيقية قديمة تُعزف لحنًا لم يعرفه الزمان. كل كلمة كانت تنبثق في فضاء المسرحية، وكل جملة كانت تتراءى أمامي كأنها مشهد حي.
كانت المسرحية تدور حول كلب، كلبٌ يخص أغنياء المدينة، يتجول بلا همٍ أو قيد. لكن في أحد الأيام، يعض هذا الكلب أحد الفقراء في الشوارع، فيحدث ما لم يكن في الحسبان. الفقير، الذي لم يكن له من مَخرج سوى أن يصرخ دفاعًا عن نفسه، يُحاكم بتهمة إزعاج الكلب، وتهديد راحته، وكأن حياته كانت ملكًا لهذا الحيوان اللامبالي. هيأتُ المسرحية لتكون انتقادًا مريرًا لطبقات المجتمع، حيث يصبح الكلب أكثر قيمة من البشر، ويصير الفقير ضحية لهذا التفاوت الفاحش.
لكن، كما يحدث دائمًا مع كل شيء ثمين، ضاعت المسرحية. ولم أعد أراها منذ ذلك الوقت، رغم أنني بذلت كل جهدٍ في طباعتها. ربما كانت تلك المسرحية التي كتبتها على آلة كاتبة قديمة، قد تحولت إلى مجرد ذكرى، مثل شريطٍ تلاشى من الذاكرة.
ومع ذلك، لا أستطيع أن أُنسى ذلك الشعور الذي تركته الحروف على الورق. أحيانًا تلوح لي ذكريات تلك الأيام، مثل أطياف بعيدة، وتظل أسئلةٌ كثيرة تراودني: هل كانت تلك المسرحية مجرد حلم؟ أم أنني كتبتها حقًا؟ ربما، في الزمان والمكان الذي نشأتْ فيه، كانت تلك المسرحية محاولة لاكتشاف شيء عميق في النفس البشرية، شيء لا يزال يراودني حتى اليوم.