"إلى اليمين دُر" .. هل بات شعار المرحلة في أوروبا؟
النائب نور أبو غوش
26-02-2025 12:26 PM
شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً لتيارات اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، وهو ما تجسد في الانتخابات الأخيرة في ألمانيا، حيث حقق حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) نتائج تاريخية، وتمتد هذه الظاهرة إلى دول أخرى كفرنسا التي شهدت صعود مارين لوبان وحزب "التجمع الوطني"، وإيطاليا حيث تولت جورجيا ميلوني، زعيمة حزب "إخوة إيطاليا"، رئاسة الحكومة، ما جعل البلاد تحت حكم حزب يميني متطرف لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، والسويد إذ دخل حزب "ديمقراطيو السويد" اليميني المتطرف إلى الحكومة الائتلافية، ما يعكس تغيرات في المزاج السياسي في الدول الاسكندنافية.
أثر صعود اليمين المتطرف على سياسات الهجرة، ففي إيطاليا مثلاً جاءت رئيسة الوزراء ميلوني إلى السلطة عام 2022 على وقع وعود صارمة بـوقف الهجرة غير النظامية، وبمجرد تسلمها المنصب، أطلقت حكومتها حملة مشددة على الهجرة، وفي نهاية عام 2023 توصلت إيطاليا إلى اتفاق مع ألبانيا لنقل بعض طالبي اللجوء إليها والبتّ في طلباتهم هناك، في سابقة هي الأولى من نوعها أوروبيًا، وكذلك الأمر في فرنسا وغيرها، إذ باتت الخطابات ضد المهاجرين واللاجئين جزءاً أساسياً من الأجندة السياسية الأوروبية السائدة اليوم.
إضافةً إلى قضية المهاجرين، يُعزى صعود اليمين في أوروبا لأسباب عدة ومن أبرزها؛ القضايا الاقتصادية حيث تسببت الأزمات المالية في زيادة معدلات البطالة والتضخم، مما أدى إلى تراجع ثقة الناخبين في الأحزاب التقليدية، ولعب دونالد ترامب دوراً بصعود اليمين المتطرف في أوروبا، فهو يعتبر رمزاً عالمياً للشعبوية اليمنية، ونموذجًا للسياسيين الشعبويين الذين يتحدون النخبة السياسية، فشعاراته المتمثلة ب"أمريكا أولاً" و"اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ألهمت شعارات مثل "فرنسا أولاً" و"ألمانيا للألمان"، إضافة إلى أن دعم ترامب القوي لكيان الاحتلال واتخاذه قرارات مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أعطى دفعة للأحزاب الأوروبية اليمينية التي تؤيد الكيان بقوة، كما أن ترامب من خلال منصته "تروث سوشيال" وظهوره الإعلامي المتكرر استمر في دعم الشخصيات اليمينية الأوروبية، مثل مارين لوبان وفيكتور أوربان. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز خطاب اليمين المتطرف عبر نشر المعلومات المضللة والدعاية السياسية بسهولة وسرعة، فيُقدم المحتوى اليميني بأسلوب شعبوي بسيط يجذب الشباب ويؤثر على آرائهم، فبخلاف الأحزاب التقليدية، وتستخدم حركات اليمين المتطرف الإنترنت للتواصل مباشرة مع الناس دون وسطاء، مما يمنحهم تأثيراً أوسع، وتعمل خوارزميات فيسبوك وتويتر على دفع المحتوى الأكثر إثارةً للجدل إلى مقدمة الصفحات، مما يُسهل انتشار الأفكار اليمينية المتطرفة.
إن اليمين المتطرف ليس ظاهرة حديثة، بل يعود إلى الفكر القومي الأوروبي في القرن التاسع عشر، حيث كانت الأفكار القومية والإثنية تشكل أساس الدول الحديثة، ورغم تقدم العصور فلا زالت الأحزاب اليمينية تستند في العديد من أفكارها إلى نظريات عنصرية مباشرة أو غير مباشرة، كفكرة "الاستبدال العظيم" والتي تعتبر من أشهر نظريات المؤامرة التي يروج لها اليمين المتطرف، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، فتروج هذه النظرية لفكرة أن النخب السياسية والاقتصادية تعمل على استبدال السكان الأصليين الأوروبيين بمهاجرين غير أوروبيين، بهدف تغيير البنية الديموغرافية للقارة، ويتم الترويج لذلك عبر ادعاءات مثل أن الإسلام يتعارض مع القيم الأوروبية، أو أن المهاجرين مسؤولون عن ارتفاع معدلات الجريمة، وأنهم أنهم يسرقون وظائف السكان الأصليين، ويشكلون عبئاً على النظام الصحي والرعائي، وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" للأبحاث في عام 2023 أن نسبة كبيرة من الأوروبيين يعتقدون أن الهجرة تشكل تهديدًا لهويتهم الوطنية، وفي الولايات المتحدة مثلاً، تُعبّر هذه الأفكار عن نفسها في مجموعات مثل كو كلوكس كلان (KKK).
يشكل صعود الأحزاب القومية المتطرفة تهديدًا حقيقيًا لمستقبل الاتحاد الأوروبي. فالعديد من هذه الأحزاب تعارض فكرة التكامل الأوروبي، وترغب في الانسحاب من الاتحاد أو تقليص صلاحياته، وهو أمر يخدم المصالح الأمريكية من عدة زوايا، كتقليل نفوذ أوروبا كقوة موحدة، مما يجعل التعامل مع الدول الأوروبية يتم بشكل فردي، وهو ما يمنح واشنطن نفوذاً أكبر في المفاوضات، وتقليص قدرة الاتحاد الأوروبي على التنافس مع الولايات المتحدة في قضايا مثل التجارة، والتكنولوجيا، والطاقة. وفي حال سيطرت الأحزاب اليمينية المتطرفة على حكومات أوروبية، فإن واشنطن يمكن أن تجد حلفاء أكثر توافقًا مع سياساتها الخارجية، خاصة في قضايا مثل التصعيد ضد الصين وروسيا، حيث أن معظم الأحزاب اليمينية الأوروبية تتبنى مواقف معادية لروسيا، مما قد يؤدي إلى زيادة الدعم الأوروبي للمواقف الأمريكية في أوكرانيا أو شرق أوروبا، وإضعاف العلاقات الأوروبية مع الصين، فالاتحاد الأوروبي حاليًا شريك اقتصادي رئيسي للصين، لكن اليمين المتطرف قد يدفع أوروبا لتقليص العلاقات الاقتصادية مع بكين، بما يتماشى مع الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة النفوذ الصيني.
يُثار جدل واسع حول مستقبل موجة اليمين المتطرف في أوروبا، وما إذا كانت ظاهرة عابرة مرتبطة بظروف محددة أم تحولاً طويل الأمد في المشهد السياسي، والواقع أن المسار المستقبلي يحتمل عدداً من السيناريوهات: السيناريو الأول استمرار الصعود وترسيخ النفوذ، إذا استمرت العوامل التي غذت شعبية اليمين المتطرف من أزمات اقتصادية وتوترات اجتماعية وعدم رضى عن أداء الحكومات فمن المرجح أن يحافظ هذا التيار على زخمه، أما السيناريو الثاني فالاعتدال أو التشظي، فهناك احتمال أن يؤدي تولي اليمين المتطرف لمسؤوليات الحكم في بعض البلدان إلى ترويض خطابه واعتداله بمرور الوقت تحت ضغط الواقع السياسي، إضافة إلى السيناريو الثالث عبر احتواء المد والعودة للتعددية التقليدية من خلال نجاح القوى الديمقراطية الليبرالية في تقديم حلول فعالة للمعضلات الاقتصادية، وسياسات متوازنة للهجرة تطمئن الجمهور دون انتهاك القيم الإنسانية، وازدياد الوعي الشعبي بخطورة تفكك الاتحاد الأوروبي أو المساس بالديمقراطية.
وأمام هـذا كله يأتي السؤال الأكثر أهمية بالنسبة لنا، ما الذي يمكن أن يستثمره الأردن أمام كل هـذه التبدلات السياسية؟
دبلوماسياً، يبدأ الأمر بتعزيز موقع الأردن كوسيط معتدل ففي ظل الاستقطاب السياسي العالمي المتزايد، تبرز حاجة المجتمع الدولي لأطراف معتدلة قادرة على تقريب وجهات النظر، وهي فرصة أمام الأردن لتفعيل دبلوماسيته النشطة لاستثمار قدرته على بناء جسور دبلوماسية حتى بين أطراف متخاصمة، مما يرسخ صورته كعامل استقرار إقليمي. كما يملك الأردن في هذه المرحلة الاستفادة من التوترات بين الغرب وروسيا/الصين، فتصاعد التنافس بين المعسكر الغربي وكل من روسيا والصين رفع من أهمية الشركاء الإقليميين الموثوقين لدى الغرب، الأمر الذي يتيح توسيع الشراكات الدبلوماسية إقليمياً، مستثمراً الأردن بذلك صورته كدولة معتدلة وموثوقة؛ وشريك لا غنى عنه في معالجة قضايا الإقليم، فمن منظور أوروبي مثلاً، يُنظر للمملكة منذ زمن بعيد كعامل استقرار في إقليم مضطرب يستضيف ملايين اللاجئين.
أما اقتصادياً، فجذب استثمارات جديدة من أوروبا وخارجها، فالشركات والدول الباحثة عن أسواق مستقرة وآمنة قد تجد في الأردن وجهة جذابة في ظل سمعته كبلد مستقر سياسيًا وذي موقع استراتيجي. وبذلك يملك الأردن الاستفادة من السياسات التجارية الأوروبية وتوسيع الصادرات، فمع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، من المتوقع تشدد السياسات الأوروبية تجاه الواردات من المنافسين الكبار (كالصين) والبحث عن شركاء تجاريين "موثوقين" ضمن إستراتيجية تنويع سلاسل التوريد، وبهذا يمتلك الأردن بالفعل اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي تسمح بدخول الكثير من المنتجات الأردنية بإعفاءات جمركية، ويمكن للأردن التركيز على قطاعات يتمتع فيها بميزة نسبية لتصديرها لأوروبا، مثل الأسمدة والفوسفات أو الصناعات الدوائية والمنتجات الزراعية ذات الجودة العالية. بالموازاة، ينبغي العمل على رفع تنافسية الصناعة المحلية وتحسين جودة المنتجات لتلبية المعايير الأوروبية، بما يضمن استغلال أي تغيير إيجابي في سياسات الاستيراد الأوروبية لصالح زيادة حصة الصادرات الأردنية مما يؤدي لترسيخ موقع الأردن كمركز لوجستي وتجاري.
إن عدداً من الدول العظمى كالصين والهند وغيرها كانت دولاً ناميةً في مراحل سابقة إلا أنها استمرت تحولات النظام السياسي العالمي والانعطافات الكبرى فحولت الأمر إلى فرص قدمتها في سلم النجاح، وهـذا ما يملك الأردن اليوم فعله عبر اقتناص المرحلة والاتكاء على عوامل القوة لتتقدم في دور محوري ورئيسي في المنطقة والإقليم دبلوماسياً واقتصادياً وأمنياً وتجارياً، فالإصلاح يحتاج اليوم إرادةً واضحةً تقتنص الفرص. وتحمل شعاراً "نحو مصلحة الوطن دُر".