ترشيد المنصات الرقمية في التعامل مع الأخبار الجنائية
د. أشرف الراعي
08-03-2025 10:04 PM
كتبت رأياً قانونياً من يومين على صفحتي على "فيسبوك"، فوجدت سيلاً من الشتائم والإساءات، لأن ما كتبت ربما لا يتفق مع آراء الكثيرين رغم أنه وارد بنص القانون.
وعلى أي حال فقد باتت المنصات الرقمية اليوم جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فهي المصدر الأول للأخبار والمعلومات، ووسيلة التواصل الأسرع بين الأفراد والمجتمعات، ومع هذا التطور السريع، برزت إشكالية خطيرة تتعلق بكيفية تعاطي الجمهور مع الأخبار، خاصة تلك التي ترتبط بالجرائم والحوادث المؤلمة.
فقد شهدنا في الآونة الأخيرة انتشاراً واسعاً لخطاب التحريض والكراهية، حتى في القضايا التي يكون الأطفال طرفاً فيها، كما حدث في الجريمة التي هزّت المجتمع الأردني مؤخراً، عندما قام طفلان بإحراق زميلهما في الرصيفة، وهي جريمة مؤلمة بكل المقاييس.
على الرغم من بشاعة الجريمة، إلا أن ردود الفعل على المنصات الرقمية كشفت عن مشكلة أكثر عمقاً؛ وهي غياب المسؤولية في التعليق والتفاعل، وتحول هذه المنصات إلى محاكم شعبية يصدر روادها الأحكام القاطعة، بعيداً عن أي اعتبارات قانونية أو إنسانية.
تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي على سرعة التفاعل، لكنها للأسف لا تضع ضوابط أخلاقية لكيفية التعامل مع الأخبار الحساسة، وفي مثل هذه القضايا، نجد أن مشاعر الغضب تسيطر على التعليقات، فيطالب البعض بالانتقام من الجناة، حتى وإن كانوا أطفالاً لم يبلغوا سن المسؤولية الجنائية الكاملة، بل إن بعض التعليقات تتجاوز ذلك إلى التحريض على العنف، متجاهلة القوانين التي تُراعي خصوصية الأطفال في النزاعات القانونية، وتفترض أن الهدف من أي عقوبة هو الإصلاح وليس الانتقام.
هذا النمط من التفاعل الرقمي لا يعكس فقط نقص الوعي القانوني، بل يكشف أيضاً عن مدى التأثير السلبي الذي يمكن أن تلعبه هذه المنصات إذا لم يتم ضبط استخدامها بشكل صحيح؛ فالفضاء الرقمي لا يجب أن يكون ساحة للفوضى العاطفية، بل يجب أن يكون مساحة للنقاش المسؤول الذي يراعي الأبعاد القانونية والاجتماعية لأي قضية يتم تناولها.
وبالطبع، لا يمكن الحديث عن ترشيد استخدام المنصات الرقمية دون التطرق إلى دور الإعلام التقليدي والرقمي في هذه المسألة؛ فمن المعروف أن وسائل الإعلام تلعب دوراً رئيسياً في توجيه الرأي العام، ولكن بعض المنصات الإعلامية للأسف تستغل هذه القضايا لتحقيق نسب مشاهدة أعلى، من خلال عناوين مثيرة وتغطيات تفتقر إلى التوازن والحياد.
في قضايا مثل هذه، من الضروري أن يلتزم الإعلام بمبادئ أخلاقية واضحة، تضمن نقل الأخبار بمهنية، وتمنع إثارة العواطف السلبية التي قد تؤدي إلى تصعيد غير مبرر، كما يجب أن تتحمل المنصات الرقمية جزءاً من هذه المسؤولية، من خلال وضع سياسات تمنع نشر التعليقات التحريضية، وتعزز من ثقافة الحوار المسؤول.
في مواجهة هذا الواقع، لا بد من مقاربة شاملة تجمع بين التشريعات القانونية والتوعية المجتمعية لضبط السلوك الرقمي؛ فوجود قوانين صارمة تجرّم خطاب الكراهية والتحريض على العنف أمر ضروري، لكنه وحده لا يكفي، إذ يجب أن تترافق هذه التشريعات مع حملات توعية تسلط الضوء على خطورة التعليقات غير المسؤولة، وتدعو إلى تبني خطاب أكثر اعتدالاً في التعامل مع القضايا الحساسة.
إن بناء وعي رقمي مسؤول ليس مسؤولية فردية فقط، بل هو مسؤولية جماعية تشمل الإعلام، والمؤسسات التعليمية، ومؤسسات المجتمع المدني والقانونيين والإعلاميين، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال مبادرات تربوية وإعلامية تسهم في ترسيخ ثقافة احترام القانون، والتفكير النقدي، والتفاعل الواعي مع المحتوى الرقمي.
ما أريد قوله، إن الجرائم المؤلمة التي تهز مجتمعاتنا لا يجب أن تتحول إلى وقود يشعل مزيداً من الكراهية والانقسام على المنصات الرقمية، بل يجب أن تكون هذه الأحداث فرصة للتأمل في المشكلات الاجتماعية العميقة، وإيجاد حلول حقيقية لها، بدلاً من الانجرار وراء حملات التحريض والعنف اللفظي.
وترشيد استخدام المنصات الرقمية ليس ترفاً، بل ضرورة لضمان أن تظل هذه المساحات وسيلة لنشر الوعي، لا أداة لنشر الفوضى، وكما أن التكنولوجيا تمنحنا القدرة على الوصول إلى المعلومات بسهولة، فإنها تضع على عاتقنا أيضاً مسؤولية استخدامها بحكمة، بما يحقق مصلحة المجتمع ويحافظ على نسيجه الأخلاقي والإنساني.