مقهى الحافة يروي حكاية طنجة
مصطفى القرنة
02-04-2025 04:56 PM
في أحد أحياء طنجة العالية، حيث يتناغم التاريخ مع البحر في تناغم يعكس خيوط الزمن الممتد، يقع "مقهى الحافة" في قلب حي مرشان، ذلك المكان الذي يسكنه صدى العصور المختلفة وتتكلم فيه الرياح بلغات متعددة. على ضفاف البحر المتوسط، حيث يلتقي مع المحيط الأطلسي، يقف الزمان كأنه لم يتحرك، وكأن كل شيء حولك يتنفس تلك الذكريات القديمة التي لا تفارق الشاطئ.
إذ تُسحب في خضم الأمواج المتلاطمة، تلك الأمواج التي ليست مجرد انكسار للماء بل هي مرآة تعكس بدايات وأحداثاً عميقة، تنتقل فيك الأصداء الحية لتُسجل حكاية المكان. هناك حيث البحر هو المعلم، والجنود الذين يستعدون لعبور المضيق مع طارق بن زياد، هؤلاء الذين قدموا من أزمان سحيقة، وذهبوا على ذات الطريق الذي يمر عبره اليوم أبناء المدينة، مثلهم في ذلك مثل البحارة الذين ينطلقون من هذا الشاطئ نحو العوالم المجهولة، يشحذون عزائمهم في انتظار القدر.
وفي هذا المقهى، الذي تأسس عام 1921، تصنعه أيدٍ حكيمة وتقف فيه رائحة النعناع كأنها توقيع زمني يربط الحاضر بالماضي، تهيم في فضائه الأحاديث التي لا تتوقف عن تذكر من مرّوا من هنا، مثل تشرشل، محمد شكري، بول بولز، وغيرهم من كبار المفكرين والزعماء الذين كانوا يجلسون على ذات الكراسي، يتبادلون الأفكار والمواقف مثلما تتبادل الأمواج البحر في تسلسلها الأزلي.
النظر إلى الشاطئ من هنا ليس مجرد لحظة مريحة للعين، بل هو رحلة تأملية في تقلبات التاريخ وصيرورة الحياة، حين يظن الإنسان نفسه قد وصل إلى لحظة ثابتة، لكن البحر، كما الزمن، لا يتوقف عن الحركية. يتحدث معك البحر بصوتٍ غير مسموع، يروي لك قصص البحارة الذين غادروا هذا الشاطئ حاملين معهم الكثير من الطموحات التي تبعث فيك تساؤلات فلسفية عميقة عن معنى الرحلة: هل هي الهروب من الواقع أم البحث عن وجودٍ أكثر صدقًا؟ ثم يعيدك المقهى إلى اللحظة الحاضرة، حيث تصبح كأس الشاي المغربي بالنعناع هي الرابط بين الماضي والحاضر، لتشعر بأنك جزء من هذا الجدلية الفلسفية، التي تتداخل فيها العواصف التي جلبها الزمان وتلك التي ستجلبها الأجيال القادمة.
في هذه اللحظة، تتحول الحافة التي تجلس عليها في المقهى إلى أكثر من مجرد نقطة جغرافية، بل تصبح حدودًا زمنية، تمتد إلى ما هو أبعد من الأفق. تصبح تلك الحافة نقطة انطلاق لفكرة عميقة حول مفهوم الوجود والمكان، إذ لا يكتفي هذا المقهى بكونه نقطة ترفيه، بل هو نقطة تلاقي الأزمنة التي التقت هنا ذات يوم: الفينيقيون، الرومان، وقبائل العرب، ومن بعدهم الزعماء والمفكرون الذين جاؤوا ليتحاوروا في هذا المكان، وتبادلوا أفكارهم حول القضايا الوجودية الكبرى، غير عابئين بمفاهيم الحدود التي فرضتها المسافات بين الأمم.
وفي لحظة السكون تلك، تحت أجنحة الأشجار التي تظل هذا المقهى، تجد نفسك ملزمًا بالاستماع إلى أصوات تلك الأرواح التي مرت هنا، أرواح الرجال الذين عاشوا قبلنا، والتي ما زالت تبث عبقًا من تلك الذكريات الموجعة والمفرحة على حد سواء. هؤلاء الذين كانوا جزءًا من تاريخ المدينة، المدينة التي ما زالت تروي قصتها رغم تقادم الزمن.
وفي هذا المقهى، تصبح اللحظة أكثر من مجرد لحظة. فهي تلتقط من الذاكرة زخات من الزمن وتتسرب إليك، وتفتح أمامك أبوابًا لا حصر لها، تتيح لك أن تتأمل كل شيء، من البحر إلى المدى البعيد، ومن الأرواح التي رحلت إلى تلك التي ما تزال تسكن في البحر ودرجاته. وها أنت هنا، في هذا المكان العتيق، في موضع بين الأمواج والتاريخ، تسكب في كأسك المزيد من النعناع وتنتظر اللحظة التي يكتمل فيها سرد هذه المدينة، كما لو أن التاريخ نفسه لا يزال يكتب، ولا يزال أمامنا موعد آخر لنسرد قصته العميقة التي لا تنتهي.