حين تتحول الأيديولوجيا إلى قنبلة موقوتة
الشاعر أحمد طناش شطناوي
18-04-2025 01:39 AM
في قلب كل مجتمع حيّ، تتعايش الأفكار وتتصارع الرؤى وتُختبر الديمقراطية بقدرتها على استيعاب التنوع والتعدد والاختلاف، لكن ثمة لحظة فارقة يخرج فيها "الاختلاف" من دائرة المشروع، ويتحول إلى مشروع مضاد للدولة، يتغذى على أيديولوجيا مسمومة، وينمو في الظل، ويتحول من فكرة إلى خلية، ومن شعار إلى رصاصة.
وهنا لا نتحدث عن الأيديولوجيا كمنظومة فكرية، بل عن استخدامها كسلاح دعائي موجه ضد الدولة، حين يختطفها فاعلون غير مسؤولين، ويحوّلونها إلى تبرير للتجييش، وأداة للتعبئة العدوانية، وذريعة لتقويض مؤسسات الدولة، وشرعنة العنف.
وتكمن خطورة الاستخدام الأيديولوجي المنفلت حين يُعاد تعريف الدولة باعتبارها العدو لا الحاضنة للجميع؛ وفي هذه اللحظة تُمسخ الدولة من "فضاء وطني مشترك"، إلى "نظام قمعي" يجب مواجهته؛ حيث تُشوّه رموزها، وتُتهم مؤسساتها بالخيانة، ويُحوّل القانون إلى عقبة أمام "التحرر"، بينما تُصبح الأفعال التخريبية عملاً نضاليًا بزيف لغوي خطير.
إن هذه الدينامية تتجلّى في المواقف الأخيرة التي شهدها الأردن، حين قامت خلية إرهابية بتصنيع السلاح والتحضير لأعمال عنف، تحت عباءة تدّعي الانتماء للوطن؛ وما يُثير القلق ليس فقط الفعل ذاته، بل الخطاب الذي يحاول تبريره أو التستر عليه، تحت شعار "الدفاع عن المعتقلين السياسيين".
وهنا تكمن المفارقة الأخلاقية الخطيرة، والتي تتجلى في سؤال: كيف يتحول من يخطط لهدم الدولة إلى "ضحية"؟ وكيف تُحوّل مؤامرة مسلّحة إلى "رأي مخالف"؟
فحين تُفرغ الأيديولوجيا من بعدها النقدي وتُحوّل إلى عقيدة مغلقة، تصبح قابلة للتفخيخ؛ فتخلق صورة مختزلة للعالم، "نحن" مقابل "هم"، (الخير المطلق في مقابل الشر المطلق)، وتنزع الشرعية عن الدولة، وتلبس المعارضة لبوس القداسة.
وفي هذه البيئة، لا يعود "الآخر" شريكًا في الوطن، بل عدوًا يجب إسقاطه؛ ولا يعود القانون ضمانًا للعدالة، بل عقبة يجب كسرها؛ ومن هنا يصبح حمل السلاح مبررًا، ويُرى العنف كوسيلة مشروعة لـ"الخلاص".
وما يدعو للقلق أن هذا المنطق لا يعيش فقط في الجبال والكهوف، بل يتسلل إلى الأحياء والمنصات والنقاشات العامة؛ إنه الإرهاب المتخفي في لغة الحرية، والتطرف الذي يختبئ تحت عباءة "الرأي"، والفتنة التي ترتدي عباءة "المطالب الشعبية".
فالدولة الديمقراطية لا تخشى المعارضة بل تنضج بها؛ لكنها في الوقت نفسه تفرّق بين من يعارض السياسات، ومن يرفض الدولة ذاتها؛ وبين من يحتج ضمن القانون، ومن يعبث بالأسس التي بُنيت عليها الدولة.
والفرق جوهري: فالمعارض الحقيقي يختلف معك في الرأي، لكنه يؤمن بوجودك؛ أما المتطرف الأيديولوجي، فلا يريدك أن تكون أصلًا.
وهنا تقع مسؤولية كبرى على الجميع (الدولة والنخب والإعلام والمجتمع المدني)؛ فيجب تفكيك الخطابات الأيديولوجية السامة، التي تغلّف التطرف بالوطنية، والعنف بالكرامة، والانقسام بالحرية؛ كما يجب إحياء الخطاب الوطني المتوازن، الذي يفتح الباب للنقد، لكنه يُغلقه أمام العبث.
والحقيقة أن الدولة ليست عقبة أمام الحرية بل هي شرطها؛ وحين تنهار الدولة لا يبقى سوى الفراغ والاحتراب ودوامة من العنف لا تُبقي ولا تذر؛ لذلك فإن حماية الدولة ليست فقط مهمة السلطة، بل واجب وطني وأخلاقي، حيث يبدأ من تفكيك الخطابات المتطرفة، ويمر عبر مساءلة الأيديولوجيا، ولا ينتهي إلا حين تتحول الوطنية إلى حصن يحمي الجميع من الانزلاق في وهم "التحرر المدجج بالسلاح".
فالديمقراطية لا تُبنى على فوهات البنادق، ولا تتحقق عبر تفجير الدولة من داخلها؛ إنها مشروع تعايش لا مشروع مواجهة.
* أحمد طناش شطناوي/ رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/إربد.