لطالما راودتني فكرة أن الكتب خارج دائرة اهتمام اللصوص. ولست أعني بهذا الكلام نوعًا من التقديس غير الواقعي للمعرفة، بل هو ملاحظتي الشخصية المبنية على تجارب متكررة ومعايشة للواقع. لا أذكر أنني سمعت يومًا عن سارق اقتحم بيتًا أو مكتبًا ثم غادر وفي يده رواية نادرة أو مجموعة مقالات فلسفية أو حتى مجلد تفسير أو معجم لغوي. يبدو أن الورق المملوء بالأفكار لا يُغري أولئك الذين يبحثون عن ما يمكن بيعه سريعًا أو استخدامه مباشرةً.
هذه الفكرة راودتني من جديد في موقف بسيط ظاهريًا، لكنه حمل في طياته الكثير من الرمزية والمعاني. في أحد الأيام، طلب مني صديق مقرب أن أحتفظ له بكرتونة مليئة بالكتب. كان يستعد للسفر، وخاف أن يتركها في بيته فيغري بها أحدهم أو أن تتعرض للضياع. طلبه كان بسيطًا، لكني ترددت للحظة. ليس لأنني لا أثق فيه أو لأنني لا أملك مكانًا لتخزين الكرتونة، بل لأنني منذ زمن أصبحت لا أحتمل التعامل مع الصناديق والكراتين، خصوصًا تلك الثقيلة منها، المليئة بالكتب. ربما يعود السبب إلى موقف سابق كاد أن يكلّفني صحتي وراحتي.
في إحدى المرات، قررت أن أنقل مجموعة من الكتب القديمة من مكتبتي المنزلية إلى المخزن، بسبب ضيق المساحة. وضعت الكتب في كرتونة كبيرة، أكبر مما ينبغي، وغفلت عن الوزن الهائل الذي سيشكله جمع كل تلك المؤلفات داخلها. حاولت حمل الكرتونة، فإذا بظهري يئن ويصرخ! أحسست كأن العمود الفقري يوشك على الانكسار، ولم تمضِ ثوانٍ حتى فقدت توازني وسقطت أرضًا، والكرتونة فوقي كجبل من الورق والحبر.
وبينما أنا ممدد تحت الكرتونة الثقيلة، عاجز عن الحراك، قفز إلى ذهني مشهد طريف ومحزن في آنٍ واحد: تذكرت الجاحظ، الكاتب العباسي الشهير، الذي يُقال إنه مات بسبب سقوط مكتبة عليه. كم هو غريب أن تكون الكتب، التي تمنحنا الحياة والمعرفة، سببًا في نهايتنا! ربما فيها درس خفي: أن المعرفة، رغم سموّها، قد تكون عبئًا إن لم نحسن التعامل معها.
ورغم الألم، ضحكت بيني وبين نفسي وأنا أتخيل صحيفة تنشر خبراً يقول: "كاتب معروف سقط تحت كومة من الكتب، وجدت بجانبه مقولة: اللصوص لا يسرقون الكتب". أي سخرية هذه؟ وهل كان من الممكن أن تكون الكتب وسيلتي للموت؟ بعد أن كانت زادي في الحياة، ورفيقتي في السهر، ونافذتي إلى العوالم الأخرى؟
عدت إلى صديقي، وابتسمت ابتسامة خفيفة وأنا أقول له: "اللصوص لا يسرقون الكتب". كررتها بهدوء، وكأني أؤكد لنفسي قبل أن أطمئنه. لعله استغرب من ثقتي، لكنه لم يعترض. لم يكن يدرك أني قلت ذلك من تجربة، ومن شعور داخلي بأن الكتاب لا يثير شهية الطمع في هذا الزمن، إلا في قلوب قلة نادرة من القرّاء.
لكن لماذا لا يسرق اللصوص الكتب؟ هل لأنهم لا يقرأون؟ أم لأنهم يعرفون أن لا أحد يشتري كتابًا مسروقًا؟ أم لأنهم ببساطة، لا يقدّرون ما لا يمكن تحويله إلى نقود بسرعة؟ لقد أصبحنا في زمن لا يُقدَّر فيه العقل بقدر ما يُقدَّر الذهب. الأشياء التي تُقاس بالقيمة السوقية فقط، هي ما يُطارد ويُسرق ويُحتفى به. أما الكتب، فهي رغم قيمتها الجليلة، لا تلمع في السوق، ولا تُشعل جشعًا.
الكتب مثل أصدقاء قدامى، قد نغفل عنها، لكنها تبقى وفية. لا أحد يسرقها، لا لأنها بلا قيمة، بل لأن قيمتها من نوع مختلف، لا تدركها الأيدي التي تعوّدت أن تمتد نحو الجيوب لا العقول. الكتب ليست من ممتلكات اللحظة؛ هي استثمار في الزمن، في البصيرة، في الوعي. ومن لا يسعى إلى كل هذا، لا يرى في الكتاب سوى ورق قديم.
وما زلت أذكر أنني حين حاولت بيع مجموعة من كتبي القديمة في إحدى الأسواق، نظر إليّ البائع باستغراب وقال: "من يشتري هذا الآن؟ الكل يقرأ من الهاتف!" أحزنني تصريحه، ليس فقط لأنه تجاهل قيمة الكتاب الورقي، بل لأنه عبّر عن روح زمن يركض خلف السريع والمختصر، وينسى أن بعض المعاني لا تُؤخذ إلا بالتأمل والبطء.
ومع ذلك، لا أزال أشتري الكتب، وأعطيها، وأتحدث عنها، وأكتب فيها. أعرف أنها لن تُسرق، لكني أؤمن أنها ستُقرأ. قد تمرّ الأيام والسنون قبل أن تمتد إليها يد قارئ جديد، لكن تلك اللحظة ستأتي. ربما بعد موتي، يفتح أحدهم صندوقًا في ركن منسيّ ويجد كتابًا عليه اسمي. يفتحه، يقرأ منه سطرًا، فيشعر أنه وجد ما كان يبحث عنه طويلاً.
وفي كل مرة أمرّ فيها أمام مكتبتي، أتأمل أغلفة الكتب وأتذكر ذلك المشهد: كرتونة فوق ظهري، وأنا عاجز عن الحراك. قد يكون مشهدًا مضحكًا، لكنه علّمني أن الكتب، رغم سكونها، لها ثقل. لها أثر. هي لا تُسرق لأن من يستحقها، لا يحتاج لسرقتها؛ هو يبحث عنها، ينتظرها، يحفظها، ويحملها حتى وإن كسرت ظهره.