facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بطولةٌ نقرأها .. وواقعٌ نختنق فيه


د. محمود الشغنوبي
12-05-2025 06:09 PM

ثمة شيء غامض، وعميق، وراسخ في النفس البشرية، يجعلها تنجذب إلى قصص البطولة كلما ضاقت بها سبل الواقع، وكلما تاهت في الزحام، وكلما عجز الحاضر عن منحها رموزًا تليق بها. فنحن، وإن عشنا في زمنٍ تعقّدت فيه التفاصيل وتكسّرت فيه الأحلام، لا نزال نعود بأفئدتنا إلى زمن آخر. زمن كان فيه البطل يقف بوضوح في وجه الظلم، ويرفع سيفه لا طلبًا للغنائم، بل دفاعًا عن المبدأ.

إن حكايات مثل حكاية القائد الذي طرق أبواب القدس بسيفٍ مشبعٍ بالعدل، والذي دخلها دون أن يدوس ترابها ببطش، بل بانحناءة أخلاقية نادرة، ليست مجرد أسطورة. هي إشارات تاريخية نلوّح بها لأنفسنا كلما شعرنا أن الكرامة قد فُقدت، وأن الأرض توشك أن تُبتلع.

وحين نُسرّ في دواخلنا بحكاية القائد الذي جال في الصحارى يقود جيشًا لا يعرف الهزيمة، لا نفعل ذلك حبًا في الحرب، بل لأننا نرى في ملامحه انبعاثًا لأزمنة كنّا فيها لا نُذلّ، ولا نُستضعف، ولا ننتظر عطف أحد. بل كنّا نحن من يصوغ مجرى الأحداث.

أمّا صورة الرجل الذي مشى في شوارع القدس، وحده، بثوبٍ مرقّع وحذاءٍ واحدٍ، وقد سُلّم مفاتيحها بيده، فليست ذكرى تُروى، بل ميزانًا نقيس به تفاهة اللحظة، وهشاشة ما تبقّى لنا من كرامات.

لكن اللافت أن توقنا للبطولة لا يقتصر على من حملوا السيوف وفتحوا المدن. بل حتى في سياقنا المعاصر، نُبقي بداخلنا ذلك التعلّق بمن واجه الخطر بصمت ودهاء. كيف يمكن أن نفسر هذا التعلّق الشعبي العارم بشخصيات مثل رأفت الهجان أو جمعة الشوان أو حتى مراد علمدار؟ ولماذا تحوّلت أعمال المخابرات – التي في العادة تُمارَس في الظل – إلى مادة درامية تُشبع خيال الجماهير؟ إنها ليست مجرّد مسلسلات، بل محاولة ذكية لخلق "بطل حديث" يعمل بصمت، ويضحي في الخفاء، ويمنح الناس شعورًا بأن هناك من لا يزال يحرس الوطن حتى وإن لم يظهر في نشرات الأخبار.

نحن نحب رأفت الهجان ليس فقط لأنه خدع العدو، بل لأنه فعل ما نتمنى أن نفعله نحن: أن نكون في قلب الخطر، وأن نخدم قضية أكبر من أنفسنا، دون أن ننتظر تصفيقًا أو شهرة.

سواء كان البطل على صهوة جواد في معركة فاصلة، أو خلف مكتب صغير يرسل شفرة إلى وطنه، فإننا ننجذب إليه لأنه يرمّم بداخلنا ما يكسره الواقع كل يوم. نحبّه لأننا بحاجة لمن يُذكّرنا بأن الشجاعة ممكنة، وأن الوطن يستحق، وأن التضحية ليست خرافة.

ولعل ما يحدث في أرضٍ تُروى اليوم بالدم أكثر مما تُروى بالماء، هو الصيحة التي تذكّرنا بأن البطولة لم تمت، بل أُجبرت على الصمت. وإنّ من يقفون هناك، حفاة، بصدورهم العارية، يواجهون آلةً تحصد الأرواح دون تمييز، يُشبهون أبطال الأمس أكثر مما نظن. ربما لا يحملون سيوفًا، ولا يمتطون جيادًا، ولا يرسلون شفرات من فنادق أوروبية، لكن في عيونهم ما يجعلنا نستعيد نفس الشعور الذي كان يجتاح أسلافنا وهم يروون حكايات القادة العظام.

لهذا نحب قصص البطولة. لأنها، ببساطة، تجعلنا نؤمن أننا، رغم كل شيء، ما زلنا قادرين على أن نحلم. وما دام الحلم حيًّا، فإن البطولة ليست بعيدة.

وسلامتكم..





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :