الإعلام الرقمي .. دعوة لمراجعة تشريعية شاملة
د. أشرف الراعي
14-05-2025 01:35 PM
معلوم أن عالمنا يشهد تحولات متسارعة في صناعة الإعلام، مدفوعة بثورة رقمية قلبت الموازين التقليدية للممارسة الصحافية، وفرضت واقعاً جديداً تتشابك فيه حرية التعبير مع أخلاقيات النشر، وتتعاظم فيه الحاجة إلى أطر قانونية تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين وسائل الإعلام والجمهور من جهة أخرى.
وباعتباري صحافياً وأستاذاً لمادة “قانون الإعلام الرقمي" وكوني متخصصاً في تشريعات الإعلام والجرائم الإلكترونية، أجد متعة فكرية وعملية في تدريس هذه المادة، ليس فقط لراهنيتها، بل لكونها تكشف التحديات القانونية الدقيقة التي تطرحها بيئة الإعلام الجديدة؛ فقد بات الإعلام اليوم متحرراً من الحدود الجغرافية، وتنوعت وسائطه من المقال المكتوب إلى الفيديو القصير والبث المباشر، وأصبح كل فرد يحمل هاتفاً ذكياً قادراً على أن يكون “صانع محتوى” أو حتى “صحافياً مواطناً”، الأمر الذي يدفعنا للسؤال الجوهري: هل منظومتنا التشريعية مواكبة فعلاً لهذا الواقع؟
رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها نقابة الصحافيين، والجهات المعنية إلا أن القوانين الناظمة للعمل الإعلامي لا تزال تعاني من التداخل، ومن فجوة كبيرة مع طبيعة الإعلام الرقمي؛ فقانون المطبوعات والنشر وقانون نقابة الصحافيين وقانون الجرائم الإلكترونية وغيرها من القوانين، لا يزال بعضها يحمل تصورات قديمة حول “من هو الصحافي؟” و”ما هي الجهة الناشرة؟” و”ما الذي يشكّل انتهاكا؟”، وهو ما يتطلب مراجعتها بشكل قانوني وعلمي دقيق.
علما أن الهدف من مراجعة القوانين يجب أن لا فرض قيود إضافية، بل العكس تماما: فنحن بحاجة إلى تنظيم ذكي ومرن، يُعزّز ثقة الجمهور في المحتوى الإعلامي، ويحمي الصحافيين من الملاحقات غير المبررة، ويُمهّد الطريق لنمو إعلام استقصائي جاد في بيئة آمنة ومهنية، إذ أصبح من الضروري صياغة تعريف دقيق للصحافي يشمل العاملين في المنصات الرقمية المعترف بها، دون التوسّع المُفرِط الذي يُتيح لأي مدوّن أن يختبئ وراء عباءة الصحافة، ولا التضييق الذي يمنع الابتكار الإعلامي.
من هذا المنطلق، أكرر دعوتي ـ التي كنت قد طرحتها خلال لقاء جمعني موخراً بنقيب الصحافيين الأردنيين الأستاذ طارق المومني وعدد من الزملاء في مجلس النقابة ـ إلى إطلاق حوار وطني شامل لمراجعة القوانين الإعلامية الحالية، على أن يكون هذا الحوار تشاركياً ومفتوحا، يضم النقابة، ومعهد الإعلام الأردني، والجامعات التي تدرّس الإعلام، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وعددا من خبراء القانون والمجتمع المدني.
لقد آن الأوان لأن ننتقل من الدفاع عن الصحافة إلى تمكينها تشريعيا، وأن نُحصّن المهنة من التحديات الرقمية بأدوات قانونية حديثة، تستند إلى المعايير الدولية لحرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة، كما أقرّها “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
الإعلام الرقمي لا ينتظر أحداً، والمجتمعات التي تتأخر عن تنظيمه تفقد فرصة بناء فضاء عام صحي ومستنير؛ فلنكن على مستوى هذا التحدي، ولنفتح صفحة جديدة في العلاقة بين الإعلام والقانون، تحترم الحرية، وتعزز المسؤولية، وتُحصّن الوطن من فوضى المعلومات دون المساس بحقوق الناس.