كان الشتاء قد أحكم قبضته على جراسا، تلك المدينة التي تختبئ بين التلال، وتتلألأ آثارها كما الجمرات تحت رماد الزمن. الريح الشمالية تنفث أنفاسها الباردة في الأروقة الحجرية، والمطر ينقر على الأسطح كما لو كان يكتب قصائد قديمة بلغة لا يفهمها إلا من عاش ألف عام.
عام 129 بعد الميلاد. لم يكن عامًا ككل الأعوام. كان الجميع منشغلاً، يتحركون كما النمل في يوم عاصف. المدينة، برغم الأمطار والبرد، امتلأت همسًا وانتظارًا. في الساحة الكبرى، حيث تلتقي طرقات التجار والعسكر، كان الناس يتحدثون عن أمر واحد: هادريان، الإمبراطور الذي سلك دروب الشرق.
قال أحدهم، شيخ بوجه محفور بالتجاعيد وبعينين كأنهما رأتا كل شيء:
– إنه لا يشبه غيره من الأباطرة… إنه لا يبحث عن الحروب، بل عن المدن. عن الناس. عن الجمال.
كانوا يسمونه "الإمبراطور السائح". لم تعرف روما من قبله رجلاً ارتحل كما ارتحل هو. على مدى أكثر من عشر سنوات، لم يستقر في قصر، بل اختار طرقًا وبلدانًا وشعوبًا، يبحث في وجوههم عن شيء ربما لم يجده في أروقة السلطة.
ها هو الآن، بعد أن مر بجدارا (أم قيس)، يتجه إلى جراسا، المدينة التي تنام بين الأحجار وتستيقظ على خيالات الأباطرة.
لقد بُنيت له بوابة عظيمة، ثلاثية القناطر، من حجر ناصع، فيها شيء من تحدي الزمان. البناة عملوا نهارًا وليلاً، والمهندسون الرومان رسموا خطوطًا لا تخطئ. قالوا إن القوس الأوسط وحده يكفي ليمر جيش بأكمله، لكن هادريان كان سيعبر وحده، راكبًا جواده الرمادي، بوجه لا يبتسم كثيرًا، وعينين تحملان في داخلهما كل حكايا الإمبراطورية.
داخل جراسا، كانت الأرصفة مبتلة، والأسواق شبه خالية. الناس احتموا من المطر داخل الحوانيت. الجنود الرومان يحرسون الطرق، بينما الصبيان يتسللون من بين الأرصفة لمشاهدة البوابة الجديدة.
"سيصل مع الغروب"، قال جندي شاب لصاحبه، وهو ينظر نحو الغرب.
رد الآخر، وهو يفرك يديه طلبًا للدفء:
– أو ربما يتأخر، كما يفعل الملوك دائماً.
لكن كان في قلب المدينة رجل يختلف عن البقية. لم يكن من الحرس، ولا من وجهاء المدينة، بل مجرد راوي… عاشق للتاريخ، كاتب يبحث عن المعنى وسط الفوضى.
جلس على صخرة قرب البوابة، وهو يلف عباءته حول جسده النحيل. أخذ يدوّن في دفتر جلدي قديم:
"ها هو الشتاء يعود، ومعه إمبراطور جاء من بعيد، لا ليخوض معركة، بل ليرى. كأن الزمان كله اختصر في لحظة انتظار. وأنا، وسط هذا المطر، لست إلا شاهداً منسيًا، يكتب ما لا يراه أحد…"
كانت المدينة تنتظر. تنتظر الإمبراطور… لكنها أيضًا تنتظر شيئًا آخر. ربما لحظة تتحول فيها جراسا من مجرد مدينة على أطراف الإمبراطورية إلى حكاية تُروى.
أصوات أقدام الخيل بدأت تُسمع في البعيد. خفيفة أولاً، ثم تزداد وضوحًا كما لو أن الأرض نفسها كانت تتهيأ لقدومه. البوابات فُتحت. الناس تجمعوا، رؤوسهم مرفوعة، وأفواههم تهمس.
ظهر هادريان. فارع القامة، بوجه صارم، ولكن لا قسوة فيه. عيناه تجولان، كما لو كان ينظر إلى الحجارة لا إلى الناس. هو لم يأتِ ليُحييهم، بل ليفهمهم. جاء ليرى ما بُني باسمه، لكنه في قلبه كان يبحث عن شيء أعمق من الأعمدة والتماثيل.
تقدم نحو البوابة. توقف أمامها. رفع عينيه إلى أعلاها. ثم ابتسم، ابتسامة قصيرة لكنها حقيقية. ربما تذكّر شيئًا من شبابه، أو من حروب خاضها ثم ندم عليها. لا أحد يعرف.
ثم دخل المدينة. لا موكب، لا هتافات. فقط خطوات صامتة، وإمبراطور يشبه المسافرين أكثر مما يشبه الملوك.
في تلك الليلة، اختبأ الناس من المطر. وكتب الراوي في دفتَره:
"لقد مر من هنا، لم يترك حربًا ولا أمرًا، لكنه ترك أثرًا. وكأن المدينة كلها تنفست مرة أخرى حين رأته. يا له من زمن، حين يكون مجيء الإمبراطور ليس من أجل الفتح، بل من أجل الحكاية."
وبقيت جراسا، عبر القرون، تروي قدوم هادريان، ذلك الذي مر ذات شتاء، تحت المطر، وسط الحجارة، كأنه ظلّ حُلُم… تجسد للحظة، ثم مضى .