facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




على ضفاف اليانغتسي: حكاية في شنغهاي


مصطفى القرنة
21-05-2025 05:08 PM

وكأنني هارب من زحمة العالم، من تعقيدات الحياة اليومية وضجيج المدن، فإذا بي أجد نفسي بين ذراعي هذا النهر العظيم، نهر اليانغتسي، الذي يمسك بي كمن يستعيد شيئًا ضائعًا. هنا، في شنغهاي، الحاضرة الصينية المترعة بالضوء والتاريخ، وقفتُ على سطح السفينة التي تهمّ بالإبحار على مهلها في مياه النهر الذي طالما سمعت باسمه، وطالما تخيلت امتداده، فإذا بي الآن أراه، ألمسه، وأتأمله عن قرب.

المساء دافئ، لا لفرط حرارته، بل لأن الغيوم تُلقي بظلها الرمادي الناعم على كل شيء، فتحجب وهج المدينة قليلاً، وتترك للنهر فسحة كي يتجلى بهدوئه. أجواء شنغهاي هذه الليلة كانت استثنائية. المحيط الهادئ القريب من المصب بدا كمرآة صقيلة، ساكنة، فيما المطر ينهمر كأنامل حانية تلامس الوجوه والقلوب.

أمشي بخطى بطيئة على سطح السفينة، كأنني لا أريد للوقت أن يمضي. تحملني الذاكرة بعيدًا، إلى سنوات مضت حين التقيتُ بهذا النهر أول مرة، في مدينة تشونغتشينغ، هناك حيث كان النهر فتًى متمردًا ينحت طريقه بين الجبال والوديان، أما هنا في شنغهاي، فهو رجل حكيم، يُسلم روحه للمحيط بكل سكينة.

أتأمل المياه، وأعلم أن ما يمر أمامي من تيار هو ذاته الذي انبثق من أعالي هضبة التبت، تلك البقعة التي تبدو بعيدةً بُعد الحكايات الأولى عن مهد الحياة. ما أعجب قدرة الله! كيف يمتدّ مجرى الماء آلاف الكيلومترات ليصب أخيرًا هنا، شاهقًا، عظيمًا، كأنما يحمل معه سر الزمن!

في يدي كوب من النسكافيه، يتصاعد منه بخار دافئ يتناغم مع رذاذ المطر. كنت أجلس مستندًا إلى حاجز السفينة، أنظر إلى المدينة، إلى بناياتها الشاهقة التي تقف كأنها تلامس السماء، وإلى أضوائها التي ترتجف في الماء. السفينة تشق النهر ببطء، تقطع نحو تسعة كيلومترات، وكأنها تمنحك الفرصة لتفكر، لتتأمل، لتكتب، أو على الأقل لتتحدث مع نفسك.

في تلك اللحظات، لم أكن وحدي. كنت برفقة الذاكرة. في ذهني طيف لقاء سابق هنا في شنغهاي، حين التقيت بصديقي الدكتور عبد الجبار، الذي يُعرف بلقب "أبو اللغة العربية في الصين"، رجل عشق العربية كما يعشق المرء وطناً لم يولد فيه، لكنه يسكن قلبه منذ الأزل.

تحدثنا طويلًا، تحدثنا عن الشعر، عن بكين، عن الكتب، وسألني عن ديواني الذي نشرته في الصين، والذي حمل عنوان "أنا والشمس وبكين". كان يتمنى أن يحصل على نسخة منه، وقد وعدته أن أرسلها إليه. لكنه وعدٌ لم أستطع الوفاء به، ربما بسبب السفر أو ضياع النسخ أو انشغالات الحياة التي تأخذنا من لحظة إلى أخرى. حتى ذلك الديوان، لم تبق منه أي نسخة، كأنما اختفى كما تختفي قصاصة ورق في مهب الريح.

أشعر أحيانًا أن لكل نهر ذاكرة، وأن اليانغتسي يذكرني، يعرفني، كأن بيننا رابطاً خفياً لا يراه سواي. هذا النهر الذي شهد على حروب وسلام، على بناء وتدمير، على حضارة امتدت آلاف السنين، ها هو اليوم يحتضنني بلطف، كأنما يعزيني عن خيباتي الصغيرة، ويدعوني لكتابة سطر جديد.

شنغهاي، يا لهذه المدينة! ليست مجرد أبراج وبنايات زجاجية، إنها حكاية قديمة تنبض بين الأزقة والموانئ. حكاية تُروى على ضفاف النهر، وتُغنّى في الأزقة الخلفية، وتُسرد في المقاهي الصغيرة حيث يجلس الشعراء والسياح على حد سواء، ينظرون إلى الماضي بعين الحنين، وإلى المستقبل بشيء من الغموض.

في هذه المدينة، تتجاور الأزمنة: من التاريخ الإمبراطوري إلى الحداثة المتسارعة، ومن قصص البحّارة إلى روايات العشاق. أما أنا، فمجرد عابر، أحاول أن ألتقط شيئًا من سحرها، أن أدوّن لحظة صافية على صفحة العمر.

أمشي قليلاً على سطح السفينة، أستمع إلى صوت الماء وهو يرتطم بجدرانها، صوت هادئ، مطمئن، كأنما يقول لي: "لا تستعجل". أعود بفكري إلى قصص الصين التي لا تنتهي، قصص المدن، قصص الناس، قصص الشعر الذي يتنفس بلغة عربية وسط بحر من الرموز الصينية.

في كل زاوية من هذه البلاد حكاية، وفي كل لقاء قصة تستحق أن تُروى. كنت أحاول أن أمسك ببعض تلك اللحظات، أن لا أدعها تفلت من بين أصابعي. لكن الذاكرة خادعة أحيانًا، تختزن ما لا نحتاج، وتنسى ما نحب. ومع ذلك، ثمة لحظات تبقى، كأنها وشم في القلب، لا يُمحى.

ربما لم أكتب كل شيء، وربما لن أكتب. لكنني أعرف أن تلك الليلة على اليانغتسي، تحت المطر الدافئ، وبين أضواء شنغهاي وظلالها، كانت واحدة من تلك اللحظات التي لا تُنسى.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :