من حصار شِعب أبي طالب إلى غزة
د. محمود الشغنوبي
29-05-2025 07:18 AM
مرّت القرون، وتكرّرت اللحظات ذاتها، وكأن الزمن يعيد تشكيل مأساته بأشكال جديدة، لكن الجوهر يبقى كما هو: أناسٌ يُحاصرون لأنهم يرفضون الانحناء. حصار بني هاشم في شعب أبي طالب قبل أربعة عشر قرناً، وحصار غزة اليوم، بينهما آلاف السنين، لكنهما يتشاركان نفس الروح: روح الظلم الوحشي من جهة، وروح الصمود الأسطوري من جهة أخرى.
في ذلك الوادي القاحل خارج مكة، أُجبر بنو هاشم على العيش سنوات ثلاث بين جبال صخرية قاسية، محرومين من الطعام والشراب، متحدّين كل أشكال القهر. اليوم، في قطاع غزة، يعيش مليونان من البشر تحت سقف حصار لا يرحم، يُمنعون من أبسط حقوقهم، تُحاصر أحلامهم قبل أرزاقهم، وتُسدّ في وجوههم كل السبل. في الحالتين، الحصار ليس مجرد عقاب جماعي، بل هو رسالة واضحة: "إما أن تستسلموا لنا، أو تموتوا بطيئاً". لكنهم في الحالتين أيضاً اختاروا الخيار الثالث: أن يعيشوا برؤوس مرفوعة، حتى لو كان ثمن ذلك الجوع والقهر.
الغريب في الحصار أنه يكشف حقيقة المُحاصِر قبل المحاصَر. قريش، التي ادّعت زعامة الدين والحضارة، وقفت تُحرّض على أبناء عمومتها، تمنع عنهم القوت، وتفرح بآلامهم.
اليوم، نرى دولاً تدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وهي تزوّد المحاصرين بأحدث الأسلحة، وتبرّر المجازر بكلمات ملتوية عن "الدفاع عن النفس". التاريخ لا يتغيّر، فقط الأقنعة تتساقط واحدة تلو الأخرى.
لكن الحصار أيضاً يخلق شيئاً مدهشاً: مجتمعات لا تعرف المستحيل. في شعب أبي طالب، تحوّل الجوع إلى وحدة، والخوف إلى إيمان.
في غزة، نرى كيف يخترع الناس طرقاً للبقاء: أطفال يتعلّمون تحت القصف، أطباء يجترون أدويتهم من لا شيء، عائلات تزرع الأمل في شرفات المنازل المدمرة. الحصار لا يقتل الإرادة، بل يصقلها كالسيف.
والدرس الأكبر؟ أن الحصار دائماً ينتهي.
خرج بنو هاشم من شعب أبي طالب ليكتبوا تاريخاً جديداً، وسيخرج أهل غزة من هذا الكابوس، لأن الحصار في النهاية هو مجرد اختبار للصبر، وكل تجارب التاريخ تقول إن الظلم لا يدوم، حتى لو طال. الفرق الوحيد اليوم هو أن العالم كله يشاهد، والشاهدون سيحكمون.
في الختام، بين شِعب أبي طالب وغزة، جسرٌ من الدموع والدم، لكنه أيضاً جسر من المجد. لأن بعض الشعوب لا تموت، بعض الشعوب تُولد من جديد كلّما اشتدّ عليها الحصار. وهذا بالضبط ما يخشاه الظالمون.
وسلامتكم..