في وقتٍ لم يعد فيه الصمت خيارًا متاحًا، ولم تعد الوحدة انعزالًا بل رفاهية، نجد أنفسنا نُلاحق ما يُعرض أمامنا عبر الشاشات كما لو أننا نسعى للهروب من شيءٍ لا نعرف اسمه. "الريلز" هذه المقاطع القصيرة، المتكررة، المتقلبة بسرعة الضوء، أصبحت رفيقة تفاصيلنا اليومية: في الصباح وقبل النوم، أثناء الأكل، بل وحتى في منتصف الأحاديث، وننتقل من ضحكة عابرة إلى دمعة خاطفة، من خبرٍ مفجع إلى تحدٍّ سخيف، ومن سطحٍ إلى آخر… دون أن ندرك أننا نُقايض وعينا بما لا يدوم، ونُفرّط في لحظات من عمرنا مقابل ومضات إلكترونية لا تُغني ولا تُثري.
ولكن، دعنا نتوقف قليلًا… لنسأل أنفسنا بصدق: هل خُلقنا لنعيش بهذه الطريقة؟ هل الإنسان، الذي كرّمه الله بالعقل، وزوّده بالإحساس، وميّزه بالبحث عن المعنى، خُلق ليكون مجرد مستهلك؟ مجرد إصبع يُمرر، وعين تتابع، وذهنٍ يتشتت بلا وجهة؟ هل هذا هو شكل الحياة الذي يليق بمن خُلق ليسجد ويفكر ويتأمل؟
الدراسات تقول الكثير، لكنها لا تُقارن بالصوت الموجود داخلنا لكننا نحاول إسكاته، ففي بحث نُشر في مجلة Addictive Behaviors كشف أن الاستخدام القهري لوسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بانخفاض تقدير الذات، وارتفاع مستويات النرجسية، وتراجع في الصحة النفسية عمومًا (Andreassen et al., 2017) . مما يجعل الأمر أكثر خطورة أن هذا النوع من الإدمان لا يُشبه الأنواع الأخرى، لأننا لا نُحاسب عليه، لا نخجل منه، بل نحصل خلاله على مكافآت عصبية فورية تُشبع نظام الدوبامين في الدماغ، وتدفعنا للعودة مرارًا وتكرارًا… بلا وعي.
نحن لا نُشاهد فقط… بل نفقد جزءًا من وعينا مع كل تمريرة، فلا نشعر بالخطر، لأنّه مقنّع، ولا نشعر بالفراغ، لأنّه مشغول. لكن الحقيقة المرّة هي أننا، شيئًا فشيئًا، نفقد القدرة على التوقف، على التمعّن، على الاستقلال الداخلي.
قال الفيلسوف مارتن هايدغر إن التكنولوجيا ليست شرًّا في ذاتها، بل في كونها تجعل الإنسان "يعيش دون أن يتأمل"، وهذا ما يحدث: نحن لا نعيش اللحظة بل نمرّرها، ولا نتأمل الغروب، بل نُصوره ونُرفقه بموسيقى قبل أن ننشره، وكأن القيمة تكمن في المشاركة لا في الشعور، في الإعجاب لا في التجربة.
إن ما نخسره ليس فقط الوقت، بل شيئًا أعمق… نخسر الجوهر الإنساني ذاته، ولقد خُلقنا بعقول تبتكر، وبقلوب تتذوق الجمال، وبأرواح تشتاق إلى السكون والتأمل، فكيف سمحنا لأنفسنا بأن نتحول إلى أدوات استهلاك فارغة؟
والمفارقة القاسية في هذا العصر أن العالم بات "أقرب" رقميًا… لكنه صار "أبعد" عاطفيًا، فالإشعارات لا تنقطع، الاتصالات لا تهدأ، ومع ذلك نحن نشعر بالوحدة أكثر من أي وقت مضى، ففي دراسة من جامعة هارفارد أثبتت أن الاستخدام المكثف لوسائل التواصل يرتبط بارتفاع الشعور بالعزلة، خاصة لدى الشباب (Primack et al., 2017) ، لأن هذه الوسائل تُشبع الحاجة الظاهرة للتواصل، لكنها لا تلمس الحاجة الحقيقية للارتباط، للدفء، للحضور الإنساني.
لقد أصبحت علاقاتنا مختصرة في “إيموجي”، وردود سريعة، وتعليقات مجاملة، ولم نعد نصغي لبعضنا البعض، لم نعد نشارك حقًا، نحن نعيش حياة الآخرين أكثر مما نعيش حياتنا، نتابع تفاصيل يومهم، وننسى يومنا نحن.
وفي خضم كل هذا، ضاعت القدرة على التأمل، ولم نعد نقدر على الجلوس في هدوء مع أنفسنا، فكثيرون لا يستطيعون قراءة كتابٍ لـ30 دقيقة متواصلة، أو كتابة فكرة متماسكة، أو الاستماع لمحاضرة كاملة دون أن يقطعهم تنبيه أو إشعار.
الكاتب نيكولاس كار، في كتابه The Shallows، حذّر من أن الإنترنت، وخصوصًا المحتوى القصير، يُعيد تشكيل أدمغتنا، فيقلّص مدى انتباهنا، ويُضعف قدرتنا على التفكير العميق (Carr, 2010) ، وما كان يُفترض أن يكون أداةً للمعرفة، تحوّل إلى مصدر تشتت يستهلك أعمارنا.
لكن رغم كل هذا، يبقى الأمل موجودًا… فقط حين نفيق.
الوعي بما نمرّ به هو أول خطوة نحو التحرّر. لسنا مضطرين لرفض التكنولوجيا، بل علينا أن نُعيد ضبط علاقتنا بها، وأن نستخدمها بوعي، لا أن تُستخدم أرواحنا كوقود لها، وأن نعود لأوقات السكينة… أن نقرأ، نكتب، نمشي، نتحدث مع من نحب، نُصغي إلى أنفسنا.
وهنا خطوات بسيطة، لكنها تنقذنا:
– ساعة واحدة يوميًا دون هاتف.
– لا تفتح الهاتف أول ما تستيقظ ولا قبل النوم.
– احذف التطبيقات التي تسرق وقتك ولا تُعطيك شيئًا حقيقيًا.
– استبدل الريلز بجلسة تأمل، أو بضع صفحات من كتاب، أو حديث مع من تحب.
هذه ليست ترفًا… بل ضرورة روحية.
وفي النهاية، تذكّر…
نحن لم نُخلق لنكون مجرد عيون تحدّق في الشاشات، ولا أصابع تُمضي وقتها في التمرير، بل خُلقنا لنفكر، ونحب، ونتأمل، ونسعى نحو الله.
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]
لم نُخلق لنُقلب في “الريلز”…
بل لنُبعث من جديد في لحظة تأمل، ولنعيش وعيًا يستحق أن يُنير هذا الظلام الرقمي.
المراجع
* Andreassen, C. S., Pallesen, S., & Griffiths, M. D. (2017). The relationship between addictive use of social media, narcissism, and self-esteem: Findings from a large national survey. Addictive Behaviors, 64, 287–293. https://doi.org/10.1016/j.addbeh.2016.03.006
* Carr, N. (2010). The Shallows: What the Internet is Doing to Our Brains. W. W. Norton & Company.
* Primack, B. A., Shensa, A., Sidani, J. E., Whaite, E. O., Lin, L. Y., Rosen, D., Colditz, J. B., Radovic, A., & Miller, E. (2017). Social Media Use and Perceived Social Isolation Among Young Adults in the U.S. American Journal of Preventive Medicine, 53(1), 1–8. https://doi.org/10.1016/j.amepre.2017.01.010
* Statista. (2024). Daily time spent on social media worldwide 2012–2023. https://www.statista.com/statistics/433871/daily-social-media-usage-worldwide/
* نائب رئيس جامعة ميدأوشن