جبل التاج والسيارة الزرقاء
مصطفى القرنة
01-07-2025 09:54 PM
عندما يبدأُ الضجيجُ في أزقة جبل التاج، كنتُ أعلم أن السيارةَ الزرقاء قد عادت. ذلك الصوت المعدنيّ، العميق، الذي يقطع سكون الصباح بصفيره الخشن، كان إعلانًا مألوفًا بأن الوقت قد حان لنبش صناديق الذكريات. على أهل الحي أن يخرجوا بناطيلهم القديمة، تنانير الأمهات التي فقدت ألوانها الزاهية، بلايز الأخوة التي غابت أزرارها، وقمصاننا المدرسية التي حملت روائح الطباشير والركض في الساحات. كل قطعة من تلك الملابس كانت تحكي حكاية، وكل خيط فيها كان شاهدًا على لحظةٍ لا تُنسى.
كانت السيارة الزرقاء تأتي كل شهر، تختار رقعةً خاليةً في الحارة، وتقف كأنها تعرف مكانها بالضبط. لم تكن تعني لي الكثير في البداية، ولكني كنتُ، أنا مصطفى القرنة، الطفل ذو السبع سنوات، أراقب المشهد من عتبة البيت بفضولٍ لا يشبع. كنت أُسرع إلى حيثُ يتجمع الكبار، وأقف خلف صفوفهم، أتسلل بعينيّ بين الأجساد لأرى كيف تُفرغ الأكياس داخل الآلة، وكيف تبتلعها الفرامة لتخرجها لُحُفًا ناعمة، بلا ماضٍ، بلا شكل.
أذكر جيدًا كيف كنت أتساءل: هل تذكر هذه القطعة كم بكيتُ حين تمزقت؟ هل يتذكر البنطال كيف ركضتُ به أول مرة إلى المدرسة؟ وهل تفهم هذه الآلة أنها لا تطحن قماشًا فقط، بل ذكرياتنا، وصورنا، وطفولتنا؟
العامل كان دؤوبًا، لا يعرف الكلل. يُفرغ الأكياس، يدفعها للفرامة، ثم يتفقد الزيت والديزل، وكأنّ الآلة كائن حيّ يحتاج إلى عناية بين كل تنهيدة وأخرى. كان صوتها يُملأ الحيّ، يندسّ بين البيوت، يصبح جزءًا من صباحات التاج. وإذا غابت، شعرنا جميعًا أن ركنًا من يومنا مفقود.
تمكث شهرًا، ثم تمضي إلى الجوفة، ثم إلى الأشرفية، ثم تعود. واليوم، وأنا أنظر من نافذتي، أكاد أراها تعود من بعيد. ولمَ لا؟ أجزمُ أن أهل الحيّ، كبارًا وصغارًا، سيفتحون نوافذهم على صوتها بفرحٍ قديم. سيهبّون حاملين ذكرياتهم في أكياس، يتقدّمون بها نحو الفرامة، ليقدّموها طواعية، ويصنعوا منها دفئًا جديدًا.
نعم، تلك السيارة الزرقاء ليست مجرد مركبة. إنها حكاية حيّ، وذاكرة زمن، وطفولة فتى اسمه مصطفى القرنة، ما زال يراها بعين الطفل، وإن كبُر.