الفن التشكيلي يدق ناقوس الخطر
عبدالرحيم العرجان
20-07-2025 01:35 PM
حال سوق الفن التشكيلي الأردني لا يُحسد عليه؛ فكثير من فناني الوطن من مختلف الأجيال لم يبيعوا عملًا واحدًا منذ أكثر من عام.
مثل بقية القطاعات الاقتصادية، توالت الانتكاسات على سوق الفن التشكيلي حتى بلغ حدًّا يلامس الصفر ابتداءً من أول يوم حضرَت فيه جائحة كورونا، وكأن هذا المرض أصاب هذا السوق في قلبه، لتتوالى الانتكاسات يومًا بعد آخر (على الفنان، دار العرض، المقتني، ومزوّد المواد)، من استمرار الحرب على قطاع غزة إلى حرب لبنان والحرب الإيرانية اليمنية الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى انخفاض السيولة في السوق، تبِعه تخفيض مخصصات الشراء السنوية لدى المقتنين المستثمرين، والخوف من المجهول لدى الفئات الأخرى من المشترين، وهو أمر طبيعي كردّة فعل، خصوصًا أن اللوحة الفنية أو المنحوتة تُعد سلعة تكميلية ذات خصوصية أو استثمارًا غير مضمون في هذه الظروف.
وعلى أثر الجائحة، أُغلقت في عمّان عدد من دور العرض الفنية المتخصصة بعد سنين من العمل والمثابرة، لعدم قدرتها على تغطية التكاليف الثابتة المرتفعة، خصوصًا بند الإيجار لكونها مقامة في مواقع راقية ذات بدل إيجار عالٍ أو في فنادق فئة خمسة نجوم. بالإضافة إلى تقليص مساحة العرض في البازارات المخصصة لفئة السياح لاستغلال المساحة لقطع حرفية بأسعار رمزية ذات دوران بيع جيد، وذلك نتيجة تأثر هذا القطاع بشكل كبير. وأيضًا توقف عمل بعض الجمعيات المتخصصة لعدم قدرتها على الحصول على تمويل من القطاع الحكومي أو دعم من القطاع الخاص، وعدم تمكن أعضائها حتى من الإيفاء برسوم اشتراكهم السنوي بمبلغه الرمزي. والبعض الآخر استبدل مقره بموقع أصغر مساحة وأجرة أقل بهدف الاستمرارية، الأمر الذي أثّر سلبًا على عدد الحضور ومساحة العرض المتاحة.
أما دور العرض الاستثمارية والمصنّفة تجارية والقائمة على الربح فقد اضطرت إلى تقليل عدد المعارض، واستثنت كثيرًا من الأمور مثل طباعة الكتالوجات والمنشورات والتصوير لتخفيض تكاليف التشغيل، لا، بل أخذت تقيم معارض لما لديها من مقتنيات على أمل تسويقها مع تخفيض الأسعار لحد ما قبل عام 2020م، مع أن معدل تعاظم السعر الفني للعمل الناجح والفنان المعروف بمعدل لا يقل عن 5%. لا، بل أخذت أسعار الفنانين بالانخفاض بهدف الحصول على سيولة مالية نتيجة التزامات الحياة الأساسية، ومنهم من وصلت نسبة تخفيضه لما يقارب الـ40% عند البيع الذاتي، معتبرًا أن هذا الخصم بمثابة فرصة دفاع ضائعة تحققت لدار العرض. ومع ذلك، فالبيع محدود جدًا ويلامس الصفر منذ عام وأكثر، الأمر الذي أصبح الشراء رهينة المقتني صاحب المال والباحث عن النوادر أو اقتناص الفرص السعرية، وهو نتيجة هذه الظروف مجتمعة، يقدم عرضه بقوة التملك حتى لو كان شراء ثلاثة أعمال بسعر واحد إن لم يكن أقل. فيما غاب بشكل عام المشتري بهدف الإهداء، وهو من كان يحرك السوق بشكل جيد لأعمال المستجدين ومتوسطها 400 دينار، وكذلك مشتري (الديكوراتيف)، وفي الأغلب كان اقتناؤه من الأجيال الحديثة. ناهيك عمّا يطرحه المقتنون للبيع بشكل ذاتي أو عبر وسطاء، الذين يتسببون بحرق سعر العمل لتحصيل نسبتهم وتعظيمها في أسرع وقت، الأمر الذي أدى إلى إغراق السوق.
أما في الأسواق العربية المحيطة، ففي لبنان وفلسطين فالوضع مشابه تمامًا بسبب الحرب والأزمة الاقتصادية، ما عدا النوادر التي تُباع في الأغلب بسعر أقل من القيمة السوقية الحقيقية. أما في الخليج، فقد أصبح المقتني أكثر وعيًا، خصوصًا مع توالي إقامة المعارض الدولية والمتخصصة، ودخول عمل دور المزادات، وعقد المؤتمرات والندوات التي يتحدث بها كبار المسوّقين والمستشارين الاقتصاديين، والغزو الفني الغربي. وللأسف، هناك غياب كبير للفن الأردني فيها، إلا ما ندر من اجتهادات لا تفي بالغرض المتمثل بحجم السوق وعراقة الرواد وفكر الأجيال الفنية المتعاقبة.
وللكلفة الإنتاجية للعمل أثر كبير؛ فقد تعاظمت أسعار المواد الأولية خلال الخمس سنوات من ألوان وكانفاس وإطارات، وبعضها وصل للضعف، ليُقلّص الفنان عدد لوحاته الفنية إن لم يبتعد عن الرسم بشكل كامل. والكثير أيضًا من تخلّى عن مرسمه ومملكته بسبب الإيجار، ليغدو بلا مكان لإنتاجه.
ومع هذه الظروف، تبقى هناك حلول مرحلية لحين العودة للرواج، تتمثل بأن تقتصر الفعاليات الدولية من ورش وسمبوزيومات المموّلة من وزارة الثقافة على الفنانين أبناء البلد، وأن يوجَّه مخصص الاستضافة من تذاكر وإقامة وترفيه، وإن كان هناك مخصص بدل إنتاج، أن يُوجَّه كاملًا للفنان الأردني في هذه الفترة لحين التعافي، وأن تحذو حذوها مؤسسات القطاع الخاص للبقاء على مصدر دخل ولو محدود لهذا الفنان الذي نذر عمره عبر ريشته لتمثيل الوطن. وأن يُفتح لهم باب المشاركة العادلة في الأيام الثقافية الأردنية التي تقيمها سفاراتنا عبر الحدود، عبر لجنة تقييم تضم أعضاء من القطاعين الحكومي والخاص والمؤسسات الفنية لتحقيق العدالة. وأن يُسنّ قانون ونظام (كنا قد طالبنا به – عندما كنا أحد أعضاء اللجنة الوطنية العليا للثقافة والفنون والتراث) يفرض على المنشآت السياحية والبنوك والشركات المساهمة العامة في حالة تجديد ديكوراتها أن تكون نسبة اللوحات الفنية ضمن المنشأة لا تقل عن 60%. وتوجيه الإهداء الحكومي للأعمال الفنية، بالإضافة إلى منح الفنان إعفاء جمركيًا على مواد الإنتاج وإلغاء ضريبة المبيعات، وهو أيضًا ما أوصينا به في مؤتمر الاستثمار في الفن ولم يؤخذ به. واليوم نعيد هذه التوصيات والحلول لعلّ وعسى أن يبقى الفنان يُبدع قبل أن تجف يده ويستمر هذا الرقي من الثقافة.