الجامعة العربية .. بيان آخر في مقبرة الصمت
د. محمد بني سلامة
23-07-2025 02:41 PM
في لحظة سياسية يختنق فيها الضمير، ويغيب فيها الحد الأدنى من الإنسانية، خرجت علينا الجامعة العربية ببيانها الختامي "التاريخي" الذي أدان "تحويل غزة إلى منطقة مجاعة"، وكأن ذلك حدث مفاجئ أو خطأ لوجستي في توصيل المعونات، لا نتيجة حصار ممنهج، وقصف عشوائي، وتجويع متعمّد، وسط صمت عربي مُدَوٍّ أقرب إلى التواطؤ منه إلى الحياد.
البيان لم يكن مفاجئًا، بل متوقعًا حد السخرية. فهذه المؤسسة التي وُلدت في لحظة استعمارية، ولا تزال أسيرة خيمة البيانات، وجلسات التنديد، أثبتت مرةً أخرى أنها بارعة في فنّ إنتاج الكلمات التي لا تغيّر شيئًا، ولا تنقذ أحدًا، ولا تُغضب قاتلًا.
نبرة القلق، والدعوة لضبط النفس، والتعبير عن "الانشغال العميق"، تحوّلت إلى لغة رسمية بديلة عن الفعل، وكأن مهمة هذه الكيانات العربية اختُزلت في كتابة نصوص عاجزة، تُحاكي مشاعر الجمهور دون أن تلمس الواقع. البيان بدا كمن يرثي ضحية في جنازتها، رغم أنه كان من المقرر أن يحاول إنقاذها.
لكن ما يجعل الموقف أكثر مأساوية هو أن بعض من يوقّعون هذا البيان، يُزاولون علنًا علاقات "طبيعية" مع الجلّاد نفسه. يجلسون معه على طاولة الاستثمار، يعقدون معه صفقات أمنية، يفتحون له الأبواب مشرّعة، ثم يعودون ليتحدثوا بوجه عابس عن "القلق من تدهور الأوضاع الإنسانية".
أية مهزلة سياسية هذه؟ كيف يمكن التوفيق بين لغة التنديد، وسياسة التطبيع؟ بين مشاهد الأطفال تحت الركام، وابتسامات البروتوكول في المؤتمرات الدبلوماسية؟ إنه انفصام أخلاقي مروّع، لا تملك له وصفًا سوى أنه "خيانة ناعمة"، لا تُطلق الرصاص، لكنها تُغطّي على من يطلقه.
البيان الذي صدر مؤخرًا لا يساوي الحبر الذي كُتب به، لأنه لم يتجاوز عتبة الشكليات. لا تهديدات، لا تحرّكات، لا قرارات فعلية، فقط تأكيد جديد على عجز الجامعة العربية عن أن تكون أكثر من كيان علاقات عامة، يُدير الأزمات بالكلمات، ويتعامل مع المذابح كأنها أخبار طارئة، لا كجرائم مستمرة.
والأدهى، أن الشارع العربي، رغم وعيه الكامل، بات لا يتوقع شيئًا من هذه المؤسسة. لقد ترسّخ في وجدان الناس أن الجامعة العربية تُشبه مريضًا في غرفة العناية المركّزة، يُنقل من قمة إلى قمة، محمولًا على سرير من العبارات الميتة.
غزة لا تحتاج إلى بيانات، بل إلى أفعال. إلى وقف صريح للتواطؤ، إلى قطيعة حقيقية مع العدو، إلى تحرّك عربي يتجاوز الدبلوماسية الباردة إلى موقف أخلاقي نقيّ. ما يجري في غزة ليس حربًا، بل إبادة موثقة على الهواء مباشرة. وكل من يصمت، أو يُطبّع، أو يُدندِن ببيانات عقيمة، إنما يشارك في الجريمة ولو بالكلمات.
وفي النهاية، سيُطوى هذا البيان كما طُويت بيانات سابقة، ليُضاف إلى أرشيف العجز العربي، وتبقى غزة، كالعادة، وحدها في وجه الإعصار، تُحارب بالبندقية… بينما يحاربها الآخرون بالنفاق.