باراك واللغة الاستعمارية الجديدة
زيد الفضيل
07-09-2025 03:17 PM
حين يصرح المبعوث الأمريكي توم باراك قائلا: إن إسرائيل لم تعد مهتمة بالالتزام بحدود الدول الوطنية التي حددتها اتفاقية «سايكس بيكو»، وإن هذه الخطوط التي رسمتها لا معنى لها في نظر نتنياهو وحكومته، وإنهم «سيذهبون حيثما يريدون، ووقت ما يريدون، ويفعلون ما يريدون لحماية الإسرائيليين وحدودهم». حين يصرح بذلك فهذا يعني أن هناك نفسا استعماريا جديدا، تريد صياغته إسرائيل برعاية غربية متجددة كما يبدو.
ذلك أن استخدامه مسمى «سايكس بيكو» وفق الرؤية الإسرائيلية فيه إشارة إلى الرؤية الاستعمارية القديمة التي قسمت البلاد العربية، على أن الأسوأ أن يتم تمرير هذه الرؤية الاستعمارية الجديدة التي تريد حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تحقيقها من خلال مبعوث أمريكي تم تعيينه رسميا ليعمل على تهدئة المنطقة والمساهمة في تحقيق السلام، لا أن يكون ممرا لنوايا وأهداف اليمين المتطرف في إسرائيل؛ وكان من الطبيعي والأجدر أن يرفض منهم هذا التصور كليا، ويعمل على ضبط سلوكهم القانوني والعسكري والأمني، لا أن يقوم بتغطية أعمالهم المنافية لكل التشريعات والقوانين الإنسانية والدولية.
مع الإشارة إلى أن إقراره برؤية الحكومة اليمينية في إسرائيل لأن يذهبوا حيث يريدون، ووقت يريدون، ليفعلوا ما يريدون، حماية لحدود غير معلومة وغير محددة من قبلهم، فهذا يعني الإقرار بإعادة تشكيل المنطقة سياسيا من جديد، وهو أمر غير مقبول وطنيا وإقليميا ودوليا.
وحقيقة القول، فإذا كانت الدولة الوطنية الحديثة قد تأسست بغير اختيار منّا، ودون أي مشاركة فاعلة من أجدادنا، بحكم طبيعة الظرف الذي كانوا فيه، مما جعل بريطانيا وفرنسا كدولتي احتلال تعمدان إلى إبرام اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م والتي جرى بموجبها تقسيم أراضي الدولة العثمانية في المشرق العربي إجمالا، ومن ذلك بلاد الشام التاريخية، التي تم تقسيمها إلى أربع دول وطنية حديثة، وهي: لبنان، وسوريا، والأردن، وفلسطين التي منحتها بريطانيا بعد ذلك لليهود ليقيموا عليها دولة إسرائيل.
إذا كان ذلك قد حدث في زمن لم نكن فاعلين فيه، وليس لدينا الوعي الكامل بمخططات الدول الاستعمارية التي نهبت مقدراتنا، فإننا اليوم غير الأمس، ونحن اليوم أقوى وأكثر وعيا من الأمس، وصار واجبا علينا أن نقف أمام أي مخطط تقسيمي يعمد إلى تشتيتنا من جديد، وإلغاء هوياتنا الوطنية المكتسبة، والتي هي عمود ارتكازنا المعاصر، وأساس وحدتنا العربية مستقبلا.
في هذا السياق فإن أخطر ما تلفظ به توم باراك في تصريحه حال لقائه مع ماريو نوفل كامن في قوله إن إسرائيل ستتوسع عسكريا بالشكل الذي تريد، ووقت تريد، وكيف تريد، حماية لحدودها، والسؤال: ما هي حدود دولة إسرائيل القانونية رسميا؟ وهل تؤمن إسرائيل بالدول الوطنية المجاورة لها، والتي أقرت بوجودها رسميا وفق مبادرة السلام العربية؟ أم أنها لا تراها واقعا قانونيا يجب احترامه والتعايش معه؟
للأسف، فالجواب هو النفي، وأن إسرائيل في ظل الواقع السياسي الذي تقوده الحكومة اليمينية المتطرفة الحاكمة لإسرائيل حاليا، لا تؤمن بالسلام مع الجوار العربي كليا، بل إن قادتها لا يخفون عزمهم إقامة دولة إسرائيل الكبرى، ولذلك لم يأت استخدام باراك لمصطلح حدود «سايكس بيكو» من فراغ، وإنما تمهيد لإعادة تشكيل الخارطة من جديد، وكأن المنطقة خالية لا حراك فيها.
أشير إلى أنه ليس بمقدور إسرائيل التي يبلغ تعداد سكانها قرابة 7 ملايين، أن تحكم البلاد العربية وفق رؤيتهم المتخيلة لدولة إسرائيل الكبرى بشكل مباشر، إذ ليس لها القدرة عسكريا وبشريا لتحقيق ذلك، لكن بإمكانها السيطرة على الأرض والإنسان في حال تفتيت المنطقة إلى أجزاء متحاربة معادية لبعضها بعضا، وهو ما يجري الآن في سوريا ولبنان، بإثارة المناطقية والطائفية والعرقية بين أهلها، ولذلك كنت ولا أزال أشدد على خيار تنمية الوعي، وأنه القوة الكبرى التي يمكن أن نواجه به الصلف الإسرائيلي، ورغبات الاستعمار الجديد الهادف إلى تحقيق أهدافه في وطننا العربي بوجه عام. مع أهمية أن يتكتل الإقليم في تحالف جديد أسميته في مقال سابق على هذه الصحيفة باسم «السعودية وتحالف القبضة الاستراتيجي الإقليمي».
أخيرا، أؤمن بأننا أمام مشهد جديد تريد إسرائيل بدعم القوى الصهيونية الغربية صياغته في المنطقة، غير أني أؤمن بأن قياداتنا العربية واعية لذلك بشكل كبير، وأجد أن السعودية قادرة على مواجهة الصلف الصهيوني بحكمة وثبات، عبر استراتيجية دولية وازنة وقوية، قوامها حشد العالم لتأييد مبادرة السلام القائمة على حل الدولتين، وهو ما يفرض على إسرائيل الإقرار بواقع الجغرافيا السياسية المعاصر، ويؤسس لسلام عادل في المنطقة، يوقف كل أعمال الإبادة والجرائم الإنسانية البشعة التي ترتكبها حكومة اليمين المتطرفة، والتي جعلت بسلوكها اللاإنساني إسرائيل دولة منبوذة عالميا وعلى نطاق شعبي واسع.
مكة