صراع الهوية ومخاطره على الدولة: قراءة في أطروحة هنتنغتون
د. عبدالله حسين العزام
25-09-2025 01:08 AM
تُعتبر الهوية الوطنية أحد الركائز الأساسية لاستقرار الدولة وتماسكها، إذ تشكل الرابط الجامع بين مكونات المجتمع في إطار الولاء والانتماء للدولة ومؤسساتها.
إلا أن الصراعات حول الهوية على اختلاف مسمياتها، سواء كانت دينية أو إثنية أو ثقافية، تمثل خطراً بالغاً على تماسك الدولة الوطنية، إذ تفتح المجال أمام التدخلات الخارجية وتزيد من هشاشة الرأي العام الوطني.
فحينما يتحول الجدل حول الهوية إلى صراع مفتوح وعميق، تُصبح الدولة الوطنية عرضة للتفكك الداخلي، ويتراجع مفهوم "المواطنة" لصالح الولاءات الفرعية الضيقة والمصالح المتنوعة، وهذا التفكك يصنع فراغاً تستغله القوى الخارجية لتعزيز نفوذها عبر خطاب إعلامي أو دعم سياسي واقتصادي لبعض المكونات، مما يفضي إلى إضعاف القرار السيادي للدولة.
علاوة على ذلك وفي ظل ثورة الإعلام الرقمي والعولمة، لم تعد المجتمعات قادرة على تحصين نفسها بسهولة أمام تدفق الأفكار والرسائل الموجهة؛ إذ تستغل القوى الكبرى هشاشة الهوية الوطنية في بعض الدول، فتغذي الانقسامات الداخلية وتعيد تشكيل الرأي العام بما يخدم مصالحها الجيوسياسية.
وفي هذا الصدد فقد طرح صموئيل هنتنغتون في أطروحته الشهيرة صراع الحضارات (1996) أن الصراعات المستقبلية لن تكون أيديولوجية أو اقتصادية بالدرجة الأولى، بل حضارية وثقافية؛ ورغم ما لقيه هذا الطرح من نقد، إلا أنه يسلط الضوء على أهمية البعد الثقافي والهوياتي في تفسير النزاعات، وإذا أسقطنا هذه الرؤية على واقع الدول الوطنية، نجد أن إضعاف الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية يُسهم في تكريس فكرة هنتنغتون، حيث تصبح المجتمعات مهيأة للتنازع وفق خطوط ثقافية وحضارية، بدلًا من وحدة وطنية جامعة.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر بعض التجارب في المنطقة العربية كيف أن هشاشة الهوية الوطنية سمحت بتدخلات خارجية مباشرة، سواء عبر أدوات الإعلام أو من خلال دعم جماعات سياسية أو دينية، الأمر الذي عمّق الانقسامات وأضعف الدولة، ودفع بعض النظم السياسية إلى تبني أدوات قسرية في إدارة الشؤون الداخلية، وهو ما انعكس سلبًا على الاستقرار المجتمعي. ويبرز ذلك في حالات عدة، كما في التجربة اللبنانية حيث جرى توظيف البعد الطائفي في المعادلة السياسية، أو في العراق حيث استُغل الانقسام المذهبي والعرقي لتقويض وحدة الدولة، وكذلك في ليبيا واليمن حيث تحولت الولاءات القبلية والمناطقية إلى أدوات للصراع على حساب الانتماء الوطني الجامع، وإلى جانب ذلك، فإن صراع الهوية قد يفتح المجال أمام الثورات الشعبية كما شهدت بعض دول الربيع العربي، حيث مثّل الإحساس بالتهميش الهوياتي والثقافي حافزاً قوياً لانفجار الشارع، كما في الحالة السورية في عهد النظام المخلوع التي اتخذت بعداً طائفياً واضحاً مع تصاعد الأزمة، أو الحالة السودانية حيث لعب البعد العرقي والجهوي دوراً محورياً في تأجيج الحراك الشعبي وزعزعة استقرار الدولة.
أخيراً، صراع الهوية ليس مجرد قضية ثقافية أو اجتماعية، بل هو تهديد وجودي للدولة الوطنية، وتؤكد تجربة العقود الأخيرة أن تحصين الهوية الوطنية الجامعة يمثل خط الدفاع الأول ضد الاختراق الخارجي، ويحول دون تحول المجتمعات إلى ساحات صراع على غرار ما تنبأ به هنتنغتون في نظريته عن صراع الحضارات؛ ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى تعزيز قيم المواطنة والولاء الوطني، مع الانفتاح على الحضارات الأخرى من موقع القوة لا من موقع التبعية.
ختاماً، فعند إسقاط أطروحة صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات على واقع الدول الوطنية، نجد أن الصراع الداخلي على الهوية يمثل صورة مصغرة لذلك الصدام الذي توقعه على المستوى الدولي؛ فإذا كان هنتنغتون يرى أن خطوط التماس الحضاري هي مصدر النزاعات المستقبلية، فإن هشاشة الهوية الوطنية تُحوّل المجتمعات إلى ساحات لاستنساخ هذا الصدام داخليًا، حيث تُعاد إنتاج الانقسامات وفق معايير دينية أو ثقافية أو عرقية، وبالتالي يصبح صراع الهوية داخل الدولة ليس مجرد خلاف داخلي، بل امتداداً لصدام أوسع، يتيح للقوى الخارجية فرصة استغلال تلك الانقسامات لتعزيز نفوذها وتوجيه الرأي العام بما يخدم مصالحها، وهو ما ينسجم مع ما نشهده في عدد من التجارب العربية!.