ربيحات .. حين تتحول السيرة إلى وعي بالمكان والإنسان
محمد حسن التل
15-10-2025 01:23 PM
صبري ربيحات.. وليسمح لي الصديق العزيز أن أتجاوز الألقاب لأنني في السطور التالية سأحاول أن أبحر في صفحات كتابه "كأني لا زلت هناك"الذي خطة صبري الربيحات الإنسان بروحة قبل قلمه بعيدا عن صفة الدكتور أو المعالي، لأنني أجزم أنه خطه وهو يخاطب تلك المراحل من عمره على صعوبتها أو قل مرها في كثير من المراحل بإنسانية الرجل المكافح وعالم الاجتماع..
يقدّم الربيحات في كتابه «وكأني لا زلت هناك» تجربة أقرب ما تكون إلى أسلوب الرواية المشوقة ، تجمع بين عمق الأدب وصدق التوثيق، فيمزج بين سيرة الفرد وسيرة المجتمع، ويجعل من الذاكرة نافذة لفهم الإنسان والأرض والزمان.
الكتاب ليس مجرد تسلسل لحياة المؤلف، بل هو بناء معرفي وروحي يرصد أدقّ التحولات التي مرّ بها جيل كامل انتقل من بيوت الطين وفضاءات القرى إلى رحابة العلم والعمل العام، ومن التعليم البسيط إلى أروقة الجامعات العالمية، ومن المحلية إلى العالمية دون أن يتخلى عن جذوره.
تبدأ الحكاية من قرية “عِيْمَة” الرابضة على كتف الجبل، حيث الطبيعة القاسية والجمال الفطري وحيث تتداخل الجبال والسهول والأودية، وحيث الإنسان جزء من الأرض لا ينفصل عنها، في تلك البيئة تَشكّل الوعي الأول للمؤلف، الانتماء و الصبر، التعاون والعمل، احترام الكبير، وحفظ المكان. حتى أسماء القرى والجبال تحمل دلالات القوة والعزيمة، فتغدو الطبيعة معلّماً أول يربّي في الإنسان روح التحدي والاعتماد على الذات.
ومع الانتقال من الطفولة إلى مقاعد الدراسة، ثم إلى الطفيلة فالعاصمة، يصل القارئ إلى مرحلة تتبدل فيها النظرة إلى العالم. يدخل المؤلف الجامعة الأردنية في سبعينيات القرن الماضي، فيصفها لا كحرم أكاديمي فحسب، بل كحاضنة للجدل الفكري، وصراع القيم، وصياغة الهوية. يتحدث عن الحيرة في اختيار التخصص، عن الأساتذة الذين تركوا أثراً، عن أجواء النشاط الطلابي، وعن التحوّل من متلقٍّ إلى فاعل. الجامعة هنا ليست محطة عابرة، بل لحظة وعي تشكّل الشخصية وتفتح الأفق نحو المسؤولية.
ثم تأتي الحياة العملية لتكشف جانباً آخر من الكتاب، فالربيحات لا يكتفي بالوصف، بل يُظهر تجربة الاحتكاك بالواقع، في المدارس، في المجتمعات المحلية، وفي السفر إلى الخارج. يتعامل مع العمل لا كوظيفة بل كرسالة، ويعرض تفاصيل التجربة في البيئات العربية والأجنبية، كاشفاً كيف تتشكل الهوية حين يواجه الإنسان المختلف، وكيف يحافظ على قيمه وهو يتفاعل مع ثقافات متعددة، وعندما يصل إلى الولايات المتحدة، لا يكتب بدهشة السائح، بل بعين الباحث الذي يقارن ويحلل ويرى في التعدد فرصة للفهم لا سبباً للذوبان.
الكتاب يكتسب ثقله حين يدخل المؤلف العمل العام ويتولى مسؤوليات وزارية يكتب عن ذلك بقدر كبير من الصدق والاتزان، فيعرض طبيعة القرار، الصراع بين الفكرة والواقع، العلاقة بين الدولة والمجتمع، وكيف يمكن للسياسة أن تكون مجالاً للإصلاح لا للمصالح.
هذه الصفحات تمنح القارئ قدرا من الشفافية، لأنها تكشف ما يجري خلف المشهد الرسمي دون إثارة أو تشهير، بل بروح الإنسان الذي يؤمن بأن خدمة الوطن واجب ومسؤولية.
ومع كل هذه التنقلات، يبقى خيطٌ واحد لا ينقطع مع المكان الأول فعلى الرغم من السفر والدراسة والمناصب، يظل صوت القرية حاضراً، تعود الروح إلى الجبال والبيوت والأسماء الأولى، كما يقول: «روحي ما تزال معلّقة في عمّان». هذا الارتباط العميق يضفي على الكتاب بُعداً وجدانياً نادراً فالكاتب لا يهرب من جذوره بل يحملها معه، يجعلها مقياساً يقيس به العالم، ويحوّل طفولته من ذكرى إلى مرجع أخلاقي يردّه إلى ذاته كلما ابتعد.
أسلوب الكتاب يجمع بين رصانة اللغة ووضوح المعنى. لا يلهث خلف الزخرفة، بل يبني جُملاً مكثفة مليئة بالحياة. السرد متدفق، والانتقالات الزمنية سلسة، والتجارب الإنسانية معروضة بعمق بعيد عن الإنشائية، وبين السطور، تظهر خلفية المؤلف الأكاديمية في علم الاجتماع، فتبرز قدرة على قراءة المجتمع وتحليل السلوك وفهم الديناميكيات الثقافية من الداخل.
«وكأني لا زلت هناك» ليس كتاباً للقراءة السريعة، بل عمل يُستعاد أكثر من مرة، لأن قيمته لا تكمن فقط في الأحداث فقط، بل أيضا في الوعي الذي يصاحبها.. إنه رحلة في الذات والوطن والإنسان، يقدم نموذجاً فريداً في أدب السيرة العربية الحديثة، سيرة تكتب التاريخ الاجتماعي بلغة الأدب، وتُحيي المكان بقلبٍ يعرف معناه، وتُثبت أن الإنسان حين يتحرك بإيمان وعلم وصدق، يمكن أن يبدأ من قرية في حضن الجبل… ويصل إلى آفاق العالم دون أن يتخلى عن جذوره.