facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




صناعة الجهل: بين حرية التعبير وسلعة الابتذال!


د. حمزة العكاليك
09-11-2025 11:06 AM

لقد أصبح المشهد الرقمي في الأردن مزيجًا متفجرًا من فوضى المعلومات وفوضى القيم. فقرار الصين بفرض شهادات تخصصية على المؤثرين هو جرس إنذار هزلي ومؤلم في آن واحد. ففي عمّان، حيث ينتشر خبراء الطب والمال والقانون كفقاعات الصابون على شاشات الهواتف، يتجسد الخطر بشكل مضاعف: خطر تضليل الجمهور بمعلومات وهمية، وخطر ثقافة الابتذال الممول، وخطر الـ تهرب الضريبي الذي يُصنفه المؤثرون الأردنيون كـ فهلوه مالية مقدسة. السؤال الذي يتردد كصدى مرير في أروقة مؤسساتنا: متى يخطو الأردن خطوة جريئة لوقف هذا الاستنزاف المعرفي والأخلاقي والمالي؟ إننا لا نحارب مجرد جهل، بل نحارب صناعة جهل تدرّ ملايين الدنانير!

المشكلة في الأردن تتجاوز التخصص إلى التأثير الثقافي السلبي. فالعديد من المؤثرين الأردنيين أو المقيمين على أرضه يعتمدون أسلوب التفاهة المبرمجة؛ أي بث محتوى لا قيمة له سوى أنه يثير الجدل أو يخدش الحياء العام، وذلك بهدف رفع التفاعل الذي يترجم مباشرة إلى دخل مادي. هذا المحتوى يتراوح بين البث المبالغ فيه عن الحياة الخاصة، أو تبني قضايا تمس بشكل مباشر القيم الأسرية والأخلاق العامة للمجتمع الأردني المحافظ، وصولاً إلى نشر موضوعات تحرض بشكل غير مباشر على عدم احترام القانون أو المؤسسات، وقد تهدد السلم الأهلي في سبيل جذب مزيد من النقرات. والأمثلة الحية لحالات تم التعامل معها من قبل السلطات المصرية بسبب تدني الأخلاق هي إنذار لنا: فالفوضى الأخلاقية تتحول سريعاً إلى قضية أمن مجتمعي تتطلب تدخلاً صارماً، لأن المحتوى المبتذل هو فيروس رقمي يهاجم جيلًا بأكمله.. هذا التدهور لا يقتصر على الابتذال الشخصي، بل يمتد إلى نشر ثقافة اللامبالاة بالمعايير الأخلاقية والمهنية في مجالات حيوية كالطب والقانون، فالمهم هو الـ هاشتاغ وليس المحتوى القائم على المعرفة والدليل العلمي.

فالحملات التي شنتها السلطات المصرية ضد بعض صانعات المحتوى – بسبب تدني الأخلاق وسوء نوعية المحتوى الذي يمس الآداب العامة – هي بمثابة الإنذار الأحمر الذي يجب أن يلتقطه كل صانع قرار عربي. فهذه القضايا ليست مجرد حالات فردية، بل هي نتاج طبيعي لبيئة رقمية تفتقر إلى الأطر التنظيمية والأخلاقية. فعندما يتم السماح ببث محتوى ينتهك اخلاق المجتمع والسلم الأهلي أو يُشوه القيم الاجتماعية لمجرد أنه يجمع مليون مشاهدة، فإن الدولة والمجتمع بأكمله يدفع الثمن من خلال تفكك الأسرة واضطراب الهوية. هذه الحالات تؤكد أن التحكم يجب أن يكون مزدوجًا: تنظيم مهني يضمن صحة المعلومة (كما فعلت الصين)، وتنظيم قيمي يضمن سلامة المجتمع من المحتوى الخادش (كما حاولت السلطات المصرية). والسؤال هو: هل ينتظر الأردن تفاقم المشكلة والوصول إلى نقطة الانهيار الأخلاقي حتى يبدأ بالتحرك؟

واما الجانب المالي القذر. فالمؤثرين يستغلون الفضاءات الرقمية العربية، ويحصدون ملايين المشاهدات من المتابعين المحليين في الأردن والمنطقة، لكنهم ينقلون عائداتهم الإعلانية الضخمة إلى ملاذات ضريبية. وهنا بيت القصيد في الحالة الأردنية: التهرب الضريبي للمؤثرين. إنهم يستغلون الـ 61% من المستهلكين الذين يثقون بتوصيات المؤثرين (بحسب الإحصائيات العالمية) لتكوين ثروات هائلة من الإعلانات والشراكات، لكنهم يديرون شبكة معقدة من الحسابات البنكية خارج الأردن، غالباً في الجنات الضريبية الإقليمية والدولية، أو من خلال تلقي الدفعات مباشرة من شركات التسويق الأجنبية.

هذا التكتيك ليس مجرد تخطيط ضريبي، بل هو استغلال صارخ للموارد الوطنية دون المساهمة في تنميتها. المؤثرون الأردنيون يعتمدون على البنية التحتية المحلية (الإنترنت، شبكات الاتصالات، قاعدة المتابعين المحليين) لتوليد أرباحهم، ثم يحرمون الخزينة الأردنية من الإيرادات الضريبية المستحقة. إنهم يضعون أنفسهم في موقع الأثرياء فوق القانون، حيث يستفيدون من الوطن ويتهربون من واجباته، مما يزيد العبء على المواطن العادي الذي يلتزم بدفع الضرائب، ويعيق جهود الحكومة في توفير خدمات أفضل. هذا يمثل تحديًا خطيرًا لأجندة حوكمة التحول الرقمي التي تهدف لدمج الاقتصاد الرقمي في الاقتصاد الوطني.

إن غياب التنظيم في الأردن يسمح بازدهار الـ "Micro-celebrity" أو المشاهير الصغار الذين لا يملكون لا العلم ولا يراعون الأخلاق والقيم المجتمعية، لكنهم يملكون القدرة على التلاعب بالرأي العام. ففي عصر تسوده حوكمة البيانات والذكاء الاصطناعي، لا يمكن قبول أن تظل المعلومات الأساسية التي يتلقاها المواطن الأردني صادرة عن دوافع مالية بحتة وليس عن علم حقيقي. فقرار مثل قرار الصين يجب أن يكون نقطة انطلاق لنموذج أردني شامل

في ظل تسارع عجلة التحول الرقمي وحوكمة البيانات والذكاء الاصطناعي، لا يمكن لأي دولة أن تسمح بأن يُترك فضاء المعلومات لرحمة تجار الوهم وأباطرة الابتذال. فيجب على الأردن أن ينظر بجدية لتبني سياسة مشابهه للسياسة الصينية أولاً، لا كقيد على الإبداع، بل كضمان لجودة المحتوى وسلامة المواطن. هذا يتطلب إقرار تشريعات تجمع بين: التنظيم للمتخصصين الرقميين، والرقابة المالية على إيرادات المؤثرين لضمان العدالة الضريبية، والمعايير الأخلاقية الصارمة التي تحمي النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي. إن لم نقم بذلك، فسنستمر في خسارة مزدوجة: خسارة قيمة المعلومات (الجهل المتخصص) وخسارة أخلاقنا (الابتذال الممول)، وخسارة إيراداتنا الضريبية (التهرب الذكي). إنها معركة لاستعادة الثقة والمعرفة والكرامة الرقمية، ويجب أن تبدأ الآن.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :