الذكاء الاصطناعي في خدمة القضاء الأردني
د. علي الروضان
17-11-2025 12:14 PM
يشهد العالم اليوم تحوّلًا عميقًا في إدارة القضايا العدلية وأساليب العمل القانوني؛ فلم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد تقنية أو فكرة مستقبلية، بل أصبح أداة عملية تسهم في تطوير القضاء والمحاماة وتحسين جودة الخدمات العدلية. وفي الأردن، الذي يسير بخطى ثابتة في مسار التحول الرقمي، تبرز فرصة واعدة لتوظيف هذه التقنيات بما يخدم القاضي والمحامي معًا، ويجعل العدالة أكثر سرعة وشفافية وإنسانية.
خلال السنوات الأخيرة، أطلقت وزارة العدل منظومة «ميزان» لإدارة القضايا إلكترونيًا، وهي تجربة رائدة أسهمت في تنظيم الملفات، وتسريع الإجراءات، وتخفيف الأعباء الإدارية. وقد مهّد هذا الإنجاز الطريق أمام إدماج الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي، بحيث تتحول البيانات إلى معرفة واضحة تدعم اتخاذ القرار، وتحليل الأداء، والتنبؤ بمسار القضايا. كما أرست الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2023–2027 قاعدة صلبة لتوسيع استخدام التقنيات الذكية في مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها وزارة العدل التي تُعدّ من أكثر المؤسسات حاجةً إلى السرعة والجودة في العمل.
وتُظهر التجارب العالمية أن الذكاء الاصطناعي لا يهدّد المهن القانونية، بل يعزّز قيمتها ويوفر أدوات جديدة للإبداع وتحسين الإنتاجية. ففي بريطانيا، تُستخدم الخوارزميات الذكية لتفريغ الجلسات وتنظيم الجداول وتلخيص الوثائق القانونية، ما وفّر آلاف الساعات من العمل الإداري. وفي سنغافورة، تسهم التطبيقات الذكية في ترجمة الوثائق ومساعدة القضاة على مراجعة القضايا بسرعة ووضوح، دون المساس باستقلالية القرار أو هيبة القضاء.
وفي الأردن، يمكن البناء على هذه التجارب لتطوير مساعد قانوني ذكي باللغة العربية يُدمج داخل المنظومة العدلية، يساعد القاضي والمحامي على الوصول السريع إلى التشريعات والقرارات السابقة، ويقترح المواد ذات الصلة دون أن يتجاوز دوره الاستشاري. كما يمكن تطوير أنظمة تحليل تنبؤية لمتابعة سير القضايا، وتحديد مواقع التأخير، وتوزيع الملفات إلكترونيًا وفق أولويات العدالة.
هذه التقنيات لا تنتقص من قيمة الإنسان، بل تمنحه وقتًا أكبر للتركيز على جوهر العدالة وصياغة الحجج القانونية وصون الحقوق. فالقاضي يبقى صاحب القرار، والمحامي يبقى صوت العدالة، بينما يتولى الذكاء الاصطناعي المهام الروتينية مثل البحث والمقارنة وتلخيص الوثائق. إنها علاقة تكامل لا تنافس، تعكس روح العدالة الحديثة القائمة على التعاون بين الإنسان والتقنية.
ولأن العدالة لا تكتمل إلا بالثقة، فإن قانون حماية البيانات الشخصية وميثاق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي يشكّلان الضمانة الحقيقية لاستخدام آمن ومسؤول لهذه التقنيات، بما يحافظ على سرّية القضايا وحقوق المتقاضين وكرامتهم، ويؤكد أن التكنولوجيا وُجدت لتخدم الإنسان لا لتحلّ محلّه.
العدالة الأردنية اليوم أمام فرصة حقيقية للتطوير. وعندما تلتقي خبرة الإنسان مع قدرات التقنية، يصبح الوصول إلى الحق أسرع، وتغدو العدالة أقرب إلى المواطن وأكثر وضوحًا وإنسانية.