ٱلْجَامِعَةُ وَٱلْبُعْدُ الثَّالِثُ فِي ٱلثَّقَافَةِ: صِنَاعَةُ ٱلْمُسْتَقْبَلِ بِتَكَامُلِ ٱلْعِلْمِ وَٱلْإِنْسَانِيَّاتِ فِي ٱلثَّوْرَةِ ٱلصِّنَاعِيَّةِ ٱلرَّابِعَةِ
د. محمد القضاة
02-12-2025 09:08 AM
على امتدادِ ثلاثةِ أيّامٍ متواصلةٍ، تابعتُ مداولاتِ مجلسِ عمداءِ الجامعةِ الأردنيةِ التي قادها الرئيس ، بحضورٍ فكريٍّ نادرٍ وحرصٍ عميقٍ على إعادةِ تشكيلِ الوعيِ الجامعيِّ ليتوافق مع طبيعةِ الثورةِ الصناعيةِ الرابعةِ وسرعتها واتساعها غير المسبوقِ.
كانتِ النقاشاتُ صريحةً ومتشابكةً، تمتدُّ بين التحليلِ العلميِّ الدقيق والرؤيةِ الثقافيةِ الشاملةِ، ممّا يؤكّدُ أنَّ الجامعةَ لم تعدْ مؤسسةً تعليميةً تقليديةً، بل أصبحتْ أو يجب أن تصبح العقدةَ المركزيةَ في بنيةِ المجتمعِ التي تفرضها هذه الثورةِ. وفي قلبِ المداولاتِ برزت أهميةُ البعد الثالث في الثقافة كإطارٍ نظريٍّ وعمليٍّ لفهم دور الجامعات في الثورة الصناعية الرابعة وتوجيهها، إذ يشمل تكاملَ العلمِ بالإنسانيات كأداةٍ لحفظ الهويةِ وكرامةِ الإنسان، مع توظيف المعرفة العلمية الدقيقة في تطوير المجتمعات وبناء المستقبل.
وكان احد المحاور الحديث عن الثقوبِ السوداءِ، حيث لم يكن الحديث درساً في الفيزياءِ الفلكيةِ حسب، بل رسمَ نموذجاً معرفياً لتعاملِ الجامعةِ مع التقنياتِ الجديدةِ، حيث أشارَ المجلس إلى أنَّ المهمةَ ليست مجردَ وصفِ هذه التقنياتِ أو الخوفِ منها، بل تحويلها إلى مختبرٍ لفهمِ حدودِ المعرفةِ البشريةِ وإعادةِ تعريفِ موقعِ الإنسانِ في الكونِ. وفي هذا الإطارِ، تتجلى مهمةُ الجامعاتِ في الثورةِ الصناعيةِ الرابعةِ ليس اختيارياً أو تكميلياً، بل وجودياً وبنيوياً؛ فهي مطالَبَةٌ بإنتاجِ معرفةٍ مدمجةٍ تجمعُ بين العلومِ الطبيعيةِ والهندسيةِ والعلومِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ لتوليدِ حلولٍ حقيقيةٍ لتعقيداتِ الثورةِ، وتصميمِ نموذجٍ تعليميٍّ جديدٍ ينتقلُ من نقلِ المعرفةِ إلى بناءِ القدراتِ التوليديةِ التي تمكّنُ الطالبَ من طرحِ الأسئلةِ غيرِ المطروحةِ سابقاً، وبناءِ مناعةٍ حضاريةٍ تحمي الهويةَ من الهيمنةِ الثقافيةِ عبر إنتاجِ نماذجَ ذكاءِ اصطناعيٍّ ولغويةٍ كبرى تعتمدُ على التراثِ واللغةِ، وتزويدِ الدولةِ والمجتمعِ بدراساتٍ استشرافيةٍ عميقةٍ حول آثارِ التشغيلِ الآليِّ والبطالةِ التكنولوجيةِ وخصوصيةِ البياناتِ والأمنِ السيبرانيِّ، مع حمايةِ القدرةِ النقديةِ وممارسةِ التفكيرِ البطيءِ والتأملِ في المعنى، كمناعةٍ أخيرةٍ ضد تحويلِ الإنسانِ إلى مجردِ بياناتٍ متحركةٍ.
الثورةُ الصناعيةُ الرابعةُ، بكلِّ ما تحملهُ من ذكاءِ اصطناعيٍّ وإنترنتِ الأشياءِ والحوسبةِ الكمويةِ وتحريرِ الجينومِ والبيولوجيا التركيبيةِ، لا تقبلُ الحيادَ، فالجامعاتُ إما أن تكون في صلبِها منتجةً للمعاني وموجّهةً لمساراتِها، أو نجد أنفسنا خارجَ التاريخِ. وفي هذا السياقِ، يصبح البعد الثالث في الثقافة وتكاملُ العلمِ بالإنسانيات الإطارَ الذي يمكّنُ الجامعةَ من أداءِ مهامِّها بنجاحٍ، فيحوّل الثورةَ من خطرٍ وجوديٍّ إلى فرصةٍ حضاريةٍ غيرِ مسبوقةٍ، والجامعةُ الأردنيةُ تملك فكرياً وبشرياً كلَّ المقوماتِ لتصبحَ رائدةً عالمياً في صياغةِ نموذجٍ عربيٍّ للجامعةِ في عصرِ هذه الثورةِ، بشرطِ ترجمةِ الرؤى إلى هياكلَ وبرامجٍ وشراكاتٍ تعكسُ هذا الطموحَ.
ما دار في مجلسِ العمداءِ لم يكن مجردَ نقاشٍ إداريٍّ روتينيٍّ، بل كان لحظةً تأسيسيةً لإعادةِ تعريف دورِ الجامعةِ العربيةِ في القرنِ الحادي والعشرينِ، مع الرؤيةِ الإصلاحيةِ التي تؤكّد أن البعد الثالث في الثقافة، مدعومَاً بتكامل العلمِ بالإنسانيات وفهمٍ علميٍّ دقيقٍ لطبيعةِ الثورةِ الصناعيةِ الرابعةِ، هو السبيلُ الوحيدُ لتبقى الجامعةُ فاعلةً في التاريخِ لا ضحيةً له، فتخرج أجيالاً لا تتقن البرمجةَ والذكاءَ الاصطناعيَّ حسب، بل تحمل الشجاعةَ الأخلاقيةَ والحكمةَ الحضاريةَ لتقرر مصيرَ التقنياتِ بدلاً من أن تقرر هي مصيرَها.