الأردن في مرايا التحديث الثلاثي
د. ليث عبدالله القهيوي
15-12-2025 12:30 PM
في لحظات التحول الكبرى، لا تُقاس جدية الدول بما تعلنه من شعارات، بل بما تُحدثه من تغيير حقيقي في علاقة الدولة بالمجتمع، وفي قدرتها على تحويل القلق العام إلى سياسات واعية. الأردن اليوم، وهو يتقدم بمشروع التحديث الثلاثي: السياسي، والاقتصادي، والإداري، يبدو وكأنه يقف أمام مرآة مزدوجة؛ صورة رسمية متفائلة، وأخرى اجتماعية قلقة، يعلو فيها سؤال مشروع: هل نحن أمام تحديث عميق يعيد بناء العقد الاجتماعي، أم أمام إدارة ناعمة للأزمة بلغة جديدة؟
لا يمكن إنكار أن منظومة التحديث السياسي حملت محاولات جادة لإعادة تنظيم الحياة الحزبية والنيابية، لكن الإشكالية الجوهرية لم تكن في النصوص، بل في البيئة السياسية التي لم تُهيأ بعد لاستقبالها. فالمشاركة السياسية، خصوصًا لدى الشباب، ما زالت محكومة بمنسوب عالٍ من الشك، وبذاكرة مثقلة بالتجارب غير المكتملة.
الأحزاب، بصيغتها الجديدة، لم تتحول بعد إلى أدوات تمثيل حقيقي، ولا إلى مساحات إنتاج سياسي جاذبة. كثير منها بدا وكأنه يُطلب منه أن يولد مكتملًا في بيئة لا تزال تتوجس من السياسة، وتُدار بعقلية ضبط الإيقاع لا توسيع المساحة. وهنا تكمن المفارقة: تحديث سياسي بلا ثقة مجتمعية، يتحول إلى إطار قانوني بلا مضمون سياسي حي.
في المسار الاقتصادي، تتسع الفجوة بين لغة الخطط ولغة الناس. الأرقام قد تتحسن، والمؤشرات قد تستقر، لكن السؤال الحقيقي يطرحه الشباب العاطلون عن العمل، والخريجون الذين ينتظرون دورهم في وطن لا يحتمل مزيدًا من الانتظار. البطالة لم تعد رقمًا اقتصاديًا، بل أصبحت عامل ضغط اجتماعي وسياسي، يهدد الاستقرار الصامت أكثر مما يُهدده الاحتجاج العلني.
الاقتصاد الأردني بحاجة إلى ما هو أبعد من إدارة العجز وتحفيز الاستثمار التقليدي. هو بحاجة إلى سردية وطنية جديدة تُجيب بوضوح: ما هو شكل الاقتصاد بعد عشر سنوات؟ وأين موقع الشباب فيه؟ لا يمكن الاستمرار في تسويق ريادة الأعمال كحل سحري، دون بنية تمويل، ولا في الحديث عن التشغيل دون إصلاح جذري لمنظومة التعليم والتدريب والعدالة في الفرص.
أما التحديث الإداري، فرغم ما شهده من محاولات رقمنة وتحسين للخدمات، إلا أنه ما زال يصطدم بجدار الثقافة البيروقراطية. المشكلة ليست في الإجراءات، بل في العقل الذي يديرها. إدارة عامة تخشى المبادرة، وتكافئ السلامة الوظيفية أكثر من الإبداع، لا يمكن أن تكون حاضنة لتحديث حقيقي.
الشباب الذين يدخلون القطاع العام، غالبًا ما يكتشفون أن المساحات المتاحة للتأثير محدودة، وأن التدرج الوظيفي لا يزال منفصلًا عن الأداء والكفاءة. وهنا يتحول التحديث الإداري إلى عملية تجميل، لا إلى إعادة تعريف لوظيفة الدولة ودورها التنموي.
في قلب المنظومات الثلاث، يُفترض أن يكون الشباب هم الرهان الأكبر، لكن الواقع يشير إلى أنهم ما زالوا موضوعًا للحديث أكثر من كونهم شركاء في القرار. يتم استدعاؤهم في الخطاب الرسمي، لكن حضورهم في دوائر صنع السياسات ما زال محدودًا.
الشباب لا يبحثون عن امتيازات استثنائية، بل عن قواعد عادلة: شفافية، فرص متكافئة، ومسارات واضحة للمشاركة والتأثير. تجاهل هذا الصوت لا يؤدي إلى إخماده، بل إلى دفعه نحو الإحباط أو الاغتراب السياسي، وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة تسعى للاستقرار طويل الأمد.
رغم أن التحديث يفترض بطبيعته رؤية مستقبلية، إلا أن أدوات الاستشراف ما زالت غائبة عن المشهد العام. السياسات تُدار بمنطق الاستجابة لا الاستباق، وتغيب السيناريوهات المعلنة للتعامل مع التحولات الديمغرافية والتكنولوجية والاقتصادية القادمة.
وفي هذا السياق، يبرز التحول الرقمي بوصفه أحد أكثر الملفات التباسًا في مشروع التحديث. فالأردن حقق تقدمًا ملحوظًا في رقمنة الخدمات الحكومية، لكن الرقمنة ما زالت تُعامل في كثير من الأحيان كغاية تقنية، لا كأداة لإعادة توزيع القوة، وتعزيز الشفافية، وتسريع المساءلة. التحول الرقمي الحقيقي لا يُقاس بعدد المنصات، بل بقدرته على تقليص البيروقراطية، وكشف الاختلالات، وتحويل البيانات إلى أداة مساءلة وربط فعلي بين الأداء والقرار.
الأخطر أن التحول الرقمي لم يُستثمر بعد كمسار تمكين شبابي استراتيجي. فالشباب، وهم الفاعل الأكثر جاهزية في الاقتصاد الرقمي، ما زالوا خارج معادلة التصميم وصنع القرار، ومحصورين في دور المستخدم لا الشريك. دون إشراكهم في بناء الحلول الرقمية، وربط التحول الرقمي بسوق العمل، والابتكار، والحوكمة المفتوحة، سيبقى مجرد تحديث شكلي، لا رافعة حقيقية للتنمية أو الثقة.
دولة لا تُشرك نخبها الشابة في رسم مستقبلها، تُخاطر بأن تُفاجأ به. فالمستقبل لا يُدار بالحدس، بل بالعلم، ولا يُصنع في دوائر مغلقة، بل عبر حوار وطني صريح، تُطرح فيه الأسئلة الصعبة قبل أن تفرضها الوقائع.
الخلاصة هنا ليست رفض مشروع التحديث، ولا التقليل من ضرورته، بل التأكيد على شرطه الجوهري: فلا تحديث بلا ثقة، ولا ثقة بلا مساحة عامة حقيقية، ولا مساحة بلا مساءلة واضحة. فالتحديث الذي لا يُقاس، ولا يُحاسب، ولا يفتح الطريق أمام المجتمع ليكون شريكًا فاعلًا، يتحول إلى خطاب سياسي أنيق، لكنه يظل محدود الأثر في الواقع.
المشكلة ليست في وجود منظومات التحديث الثلاث، بل في كيفية إدارتها. التحديث السياسي يحتاج إلى ما هو أبعد من قوانين جديدة؛ يحتاج إلى مؤشرات قياس منشورة للرأي العام حول المشاركة، والثقة، وأثر الحياة الحزبية، وإلى تمكين شبابي يفتح باب القيادة وصناعة القرار، لا أن يكتفي بالتمثيل الرمزي أو المواقع الاستشارية الهامشية.
والتحديث الاقتصادي لن يستقيم ما لم يُعاد بناء الجسر المقطوع بين التعليم والعمل، عبر مراجعة جريئة لمخرجات التعليم، وربطها الفعلي بسوق العمل، وتحويل التشغيل من وعود موسمية إلى سياسات قائمة على بيانات، وحوافز ذكية، وعدالة في توزيع الفرص بين المحافظات والفئات.
أما التحديث الإداري، فلا يمكن أن ينجح دون أن تبدأ الحكومة بمحاسبة نفسها قبل أن تطلب من الناس الصبر. إدارة عامة تقيس أداءها بشفافية، وتربط الترقية بالكفاءة، وتفتح المجال أمام القيادات الشابة لتحمل المسؤولية، لا مجرد تنفيذ التعليمات، هي وحدها القادرة على استعادة ثقة المواطن.
إذا لم يتحول التحديث الثلاثي إلى مسار واضح المعالم، قابل للقياس والمساءلة، ومفتوح أمام طاقات الشباب، فستبقى المرايا لامعة، فيما يبقى الصوت الأهم في الدولة الحديثة… مفقودًا.