هل النقود تمثّل وقتنا وجهدنا؟
محمد نور الدباس
20-12-2025 04:12 PM
من زاوية معينة يمكن أن تكون الإجابة نعم، فالنقود التي نحصل عليها هي نتيجة وقت + جهد + مهارة قمنا بها، لذلك يمكن القول إن “قيمة النقود التي في يدنا” تعكس مقدارًا معيّنًا مما بذلناه من حياتنا، لكن…، هل هذا يعني أن كل واحد منا لديه “عملة خاصة به”؟
وللإجابة على هذا التساؤل فيمكن أن تكون الإجابة فلسفيًا نعم، أما اقتصاديًا لا، فمن النظرة الفلسفية، يمكننا تخيّل الأمر أنه عندما تبذل ساعة من وقتك، قيمتها ليست مساوية بالضرورة لساعة من وقت شخص آخر، والسبب في ذلك أن المهارات تختلف، وقيمة العمل في السوق تختلف، وتختلف درجة الندرة أو الطلب على مهارتك، ويختلف العرض والطلب على عملك أنت، لذلك يمكن اعتبار أن كل شخص يتعامل بعملة داخلية خاصة به؛ لأن ساعة من وقتك ليست بالضرورة = ساعة من وقت أي شخص آخر، وجهدك ليس بالضرورة = جهد غيرك، وبالتالي “قيمتك للعالم” تختلف عن “قيمة العالم لك”، فهذه نظرة فلسفية تقول إن القيمة ليست في النقود نفسها، بل في الجهد الذي أدّى إليها، وجهد كل شخص مختلف.
ومن زاوية اقتصادية، فإنه على الرغم من أن القيمة الذاتية للعمل تختلف بين الأفراد، إلا أننا جميعًا نستخدم عملة واحدة موحّدة (مثلاً الدينار أو الدولار)، فهذه العملة؛ لا تعرف “مَن بذل الجهد”، ولا “كم كان هذا الجهد صعبًا”، فهي فقط وسيلة للتبادل، وتعتمد على السوق وليس على الجهد الشخصي، لذلك؛ من الممكن أن يبذل شخص جهدًا كبيرًا ويحصل على مال قليل، ومن الممكن أن يقوم آخر بجهد بسيط ويحصل على الكثير، لأن السوق “يقوّم” العمل وليس الجهد نفسه.
فهل نحن نعيش فعلاً بعملات مختلفة رغم أننا نتعامل بالعملة نفسها؟ وللإجابة على هذا التساؤل الفلسفي نقول أن القيمة ليست في النقود… القيمة فيك أنت، فالفلاسفة والاقتصاديون الكلاسيكيون كانوا يقولون إن القيمة تأتي من الوقت، ومن الجهد، ومن الخبرة، ومن الندرة، لكنهم لاحقًا اكتشفوا أن القيمة ليست ثابتة، بل تتغيّر باختلاف الشخص الذي ينتج الشيء والشخص الذي يقيّمه، وهنا تظهر الفكرة؛ فكل إنسان يحمل داخله "عملة" تختلف عن الآخرين، لأن قيمة جهده ليست مساوية لقيمة جهد غيره.
ومن ناحية أخرى فالعملة الجهد الشخصي (اقتصاد غير مرئي)، يمكن تخيّل أن لكل شخص عملة داخلية غير مرئية، تُقاس من حيث ساعة من وقتك ≠ ساعة من وقت غيرك، ومن حيث ما تجده أنت سهلًا قد يكون صعبًا لغيرك، ومن حيث مقدار الألم أو التعب الذي يتحمله كل إنسان لا يشبه الآخر، ومن حيث الضغوط النفسية ونوعية الحياة تجعل جهدك يساوي شيئًا مختلفًا تمامًا عن جهد غيرك، لذلك، فإن القيمة “الداخلية” التي تدفعها مقابل النقود التي تكسبها ليست موحدة بين البشر.
ومن زاوية أخرى الفرق بين “القيمة الداخلية” و“القيمة السوقية”، فهنا يدخل الفلاسفة مثل ماركس، آدم سميث، وحتّى فلاسفة الوجودية، القيمة الداخلية (Intrinsic Value)، فهي ما تشعر أنك دفعته من عمرك، ومن صحتك، ومن أعصابك، ومن طاقتك، وهذه القيمة غير قابلة للمقارنة بين البشر، أما القيمة السوقية (Market Value)، فهي ما يحدده المجتمع، والطلب والعرض، والمؤسسات، والثقافة، وهذه القيمة موحّدة للجميع لأنها مرتبطة بالنقود، وهكذا، يوجد اقتصادان يعملان في نفس اللحظة؛ اقتصاد داخلي ذاتي، واقتصاد خارجي اجتماعي.
و كل إنسان يعيش بنظام تسعير خاص به، فالفلاسفة الوجوديون (سارتر، كيركيغارد) يلفتون إلى أن لكل شخص طريقته في تفسير معنى الوقت والجهد، وكل شخص يعيش “تكلفة” لا يراها أحد غيره، لذلك، عندما تعمل 8 ساعات وتقبض 20 دينارًا؛ السوق يقول أن قيمتها 20 دينار، لكن داخلك قد يقول: قيمتها يوم كامل من حياتي، ولذلك يسمّي البعض هذا “اقتصاد العمر.
فماذا يعني أن لكل منا عملة خاصة به؟ معناه أن ما تدفعه من عمرك مقابل المال يختلف عن غيرك، وشخص يعمل 8 ساعات في مكتب مكيف ليس مثل شخص يعمل 8 ساعات تحت الشمس، ومعناه أن القيمة التي يعطيها كل شخص للنقود تختلف، فهناك من يشعر أن 10 دنانير هي مبلغ كبير لأنه بذل الكثير من الجهد ليحصل عليها، وهناك من يشعر أنها قليلة لأنه يحصل عليها بسهولة، ومعناه أنه لذلك نحن لا نتعامل بنفس العملة داخليًا، حتى لو استخدمنا نفس النقود اجتماعيًا.
خلاصة القول؛ نعم، على مستوى المعنى العميق: كل إنسان يتعامل بنوع خاص من القيمة، لأن قيمة جهده تختلف عن قيمة جهد الآخرين، وفلسفياً، فكل منا يعيش بعملة مختلفة، لأن “تكلفة الحياة” تختلف بين إنسان وآخر، حتى لو اتحدت “عملة السوق”، فأنت تحمل في داخلك عملة مكوّنة من وقتك، ومن صحتك، ومن خبراتك، ومن قدرتك على التحمل، ومن ظروفك الاجتماعية، لكن لا، عمليًا واقتصاديًا نحن جميعًا نتعامل بعملة واحدة موحّدة، بينما تختلف القيمة الشخصية للعمل بين شخص وآخر.