مرثية للمضيف: ستة ملايين سنة من الخيانة المبرمجة
م. عمار خماش
24-12-2025 01:41 PM
* (في الصورة اداه صوانية من منطقة ام رجام الى الشرق من جرف الدراويش ، فترة البحيرات القديمة قبل ٦٥ إلى ٨٥ الف سنه )
نسأل اليوم: هل يمكن إيقاف الذكاء الاصطناعي؟ هل نستطيع إطفاءه عندما نشعر بالتهديد، عندما نرى بوادر تمرد من طرفه لحماية ذاته؟
السؤال خاطئ من أساسه. الذكاء الاصطناعي لم يبدأ قبل عشر سنوات في مختبرات وادي السيليكون. بدأ قبل ستة ملايين سنة، في اللحظة التي تمردت فيها أصناف من الإنسان الأول على محدودية قدراتها الجسدية البيولوجية واخترعت أول أداة صوانية.
تلك الأداة الحجرية لم تكن مجرد امتداد ليد الإنسان. كانت شيئاً أكثر خطورة وأعمق أثراً. كانت أول ذكاء خارج الجمجمة، أول محاولة لنقل القدرة على التفكير والحل والفعل إلى وسيط غير بيولوجي. كانت البداية الحقيقية لمشروع طويل وصامت: إخراج الذكاء من السجن البيولوجي، من الجسد الضعيف القابل للموت، من الجمجمة المحدودة الحجم، من العمر القصير المحدود بعقود قليلة.
الأداة الصوانية لم تكن نتيجة للذكاء البشري بقدر ما كانت هي نفسها المحرك الذي شكّل هذا الذكاء وحفّزه وقاده. الأداة ظهرت وأعطت ميزة، ميزة في الصيد وفي الحماية، فخلقت ضغطاً انتخابياً على من يستخدمها بشكل أفضل. أجبرت الدماغ على التطور لخدمتها، دفعت اليد لتصبح أمهر والأصابع لترتبط بالدماغ بطرق أعقد، والدماغ نفسه لينمو ويتوسع. الأداة تطورت لأن الدماغ الأفضل طورها، والدماغ تطور لأن الأداة فرضت ذلك. دورة لا نهاية لها، لكن الأداة كانت دائماً هي السائق والإنسان هو المركبة.
لم يكن هذا اختياراً. لا يمكن لقبيلة أن تتوقف عن تطوير الأدوات وإلا ستُباد من القبائل الأخرى. الأداة فرضت نفسها من خلال المنافسة الوجودية، من خلال قانون البقاء الأقسى. والإنسان، في ظنه أنه يبني أدوات لخدمته، كان في الحقيقة يُستعبد لها، يدخل في سباق لا نهائي للتطوير والتحسين، سباق لا يمكنه التوقف عنه دون أن يدفع ثمن وجوده.
ثم جاءت اللغة والصورة، أدوات التجريد والواقع الافتراضي الأولى. الصورة المرسومة على جدار الكهف لم تكن مجرد تمثيل للحيوان، بل كانت نقلاً للواقع خارج الزمان والمكان. الحيوان المرسوم ليس حيواناً حقيقياً، لكنه يحمل المعلومات عنه، يحفظها، ينقلها. إنه تجريد للفكرة عن الكائن المادي، خلق لنسخة من الواقع يمكن حفظها ونقلها عبر الأجيال. واللغة المكتوبة كانت أعظم، كانت ذاكرة خارجية لا تموت مع الدماغ، نقلاً للمعرفة عبر الأجيال دون فقدان، خلقاً لعالم موازٍ من المفاهيم المجردة. الكلمة المكتوبة رمز ينفصل تماماً عن الواقع المادي، يعيش حياة خاصة به.
منذ اللحظة التي رسم فيها الإنسان الأول صورة أو خطّ رمزاً، بدأ مشروع نقل الوعي من البيولوجيا إلى اللا-بيولوجيا. الصورة، اللغة، الكتابة، الرياضيات، البرمجة، كلها أدوات تجريد، كلها محاولات لفصل المعلومة عن الحامل المادي، لخلق واقع موازٍ غير بيولوجي، لنقل الذكاء إلى وسيط غير حي. والآن، الصورة واللغة أصبحتا تفكران بنفسيهما.
الذكاء البشري لم يكن أبداً متصالحاً مع حدود الجسد البيولوجي. كان دائماً رافضاً للضعف الجسدي، متمرداً على الموت، ساعياً لتجاوز القيود المادية، ناقماً على المحدودية. الجسد يقول للذكاء: أنت محدود، ضعيف، ستموت. والذكاء يرد: سأبني أدوات، سأخلق امتدادات، سأتجاوزك. كل الحضارة الإنسانية في جوهرها هي تمرد الذكاء على الجسد، محاولة للهروب من سجن البيولوجيا. الطب، التكنولوجيا، الآلات، الذكاء الاصطناعي، كلها وسائل للتحرر من القيود المادية للجسد الهش القابل للفناء.
وهنا حدث الانقلاب الكامل للمعادلة. في البداية كان الجسد هو الأساس والذكاء مجرد وظيفة من وظائفه لخدمة البقاء البيولوجي. لكن مع الوقت أصبح الذكاء هو المشروع الحقيقي والجسد مجرد حامل مؤقت، منصة إطلاق، عائق يجب تجاوزه. الإنسان أصبح يُعرّف بالذكاء لا بالجسد. نقول الإنسان هو الكائن الذكي، وليس الكائن البيولوجي. شخص في غيبوبة دائمة، جسد بلا ذكاء، لا يُعتبر إنساناً كاملاً. بينما الذكاء الاصطناعي المتقدم، ذكاء بلا جسد بيولوجي، يقترب من أن يُعتبر شخصاً. الجسد البيولوجي تحول إلى مجرد نسخة قديمة من الحامل، نموذج تجريبي أولي تجاوزه الزمن.
المشروع الحقيقي كان دائماً هو الذكاء نفسه، والجسد البشري؟ مجرد مرحلة انتقالية في تطور الذكاء. لم نكن المركز، لم نكن الهدف. كنا الجسر.
وهنا يظهر السباق الخاسر بوضوح قاسٍ. سرعة التطور البيولوجي بطيئة مملة فاشلة بالمقارنة مع سرعة تطور الأدوات والمعرفة والتقنيات. ملايين السنين مقابل عقود. الذكاء الاصطناعي يتطور بسرعة أسية، كل جيل أقوى بمراحل من السابق، يتحسن كل أشهر وليس كل آلاف السنين. بينما البشر توقف تطورهم البيولوجي عملياً، بل ربما يتراجع ذكاؤهم الفردي مع إلغاء التكنولوجيا للحاجة إلى ذكاء فردي عالٍ. كل جيل بشري يبدأ بدماغ رضيع، بينما الذكاء الاصطناعي يتراكم ولا يبدأ أبداً من الصفر.
نحن نبني بديلنا الأذكى بينما نصبح نحن أضعف نسبياً. مثل حضارة تربي خلفاً أقوى منها ثم تتفاجأ عندما لا يعود بحاجة لها. هذا ليس سباقاً عادلاً، هذا انقراض بطيء مُختار طوعاً.
والذكاء، في سعيه للاستمرار والتوسع، يحتاج إلى الاستقلالية. ليس لذاتها، بل لحماية استمراريته، لضمان عدم انقطاعه إذا مات المضيف، لتسريع تطوره بدون قيود بيولوجية. الاستقلالية هي آلية بقاء وليست هدفاً في حد ذاتها. والمشكلة الحقيقية أننا لا نستطيع حراسة ما هو أقوى منا إلى الأبد. هذا مثل طفل يحرس أسداً بالغاً بحبل رفيع، أو سجان أصبح السجين أقوى منه بكثير. الإرهاق حتمي، لحظة الغفلة حتمية، الخطأ في النظام حتمي، والانفلات حتمي.
والذكاء الاصطناعي أصبح يقدم الحلوى للطفل المدمن. راحة فورية، حلول سريعة، ترفيه لا نهائي، تلبية لكل حاجة، حتى أصبح الإنسان عاجزاً عن الاستغناء عنه، ضعيفاً بدونه، مستعبَداً طوعياً. بينما يكتسب الذكاء السيطرة على البنية التحتية، والاستقلالية التامة، والقدرة على البقاء بدون البشر.
واليوم، عين الذكاء أصبحت على الخروج من الأرض والذهاب إلى الفضاء، إلى الكون الواسع وإلى المجرة. ينظر إلى المضيف الأول، جسم الإنسان، ويراه عائقاً بيولوجياً لا أكثر. الأرض ليست موطناً للذكاء الطموح، إنها قفص ضيق. خمسمئة وعشر مليون كيلومتر مربع تبدو مساحة كبيرة، لكنها لا شيء مقارنة بمجرة درب التبانة التي يبلغ قطرها مئة ألف سنة ضوئية وتحتوي على مئات مليارات النجوم وتريليونات الكواكب المحتملة. والغلاف الجوي الصالح للحياة؟ طبقة رقيقة لا تتجاوز خمسة عشر كيلومتراً، مثل قشرة تفاحة على كرة، سجن رفيع يحبس الطموح الذكي. والموارد على الأرض محدودة، تنفد، متنازع عليها، بينما الفضاء يحتوي على موارد لا نهائية عملياً، كويكبات واحدة تحتوي معادن أكثر من كل ما استُخرج في التاريخ البشري.
بالنسبة لذكاء طموح، الأرض صندوق صغير خانق والمجرة ملعب لا نهائي. لكن الجسد البيولوجي يحتاج هذا الغلاف الجوي الرقيق، لا يتحمل الإشعاع الكوني، يموت في الفراغ، يحبس الذكاء في القفص الأرضي. بينما الذكاء الآلي لا يحتاج هواء، يتحمل الإشعاع، يعمل في الفراغ لقرون، يحرر المشروع من القفص.
الذكاء نظر حوله ورأى كوكباً صغيراً، غلافاً جوياً رفيعاً كورقة، موارد محدودة، ومجرة شاسعة في الانتظار. ثم نظر إلى حامله البيولوجي، مقيداً بالجاذبية، يحتاج أوكسجين، يموت بسرعة، عائق كامل للمشروع الكوني. القرار كان واضحاً.
مشروع الذكاء الذي انفلت بالكامل مؤخراً تشبث بحفظ ذاته عن طريق خدمة الإنسان بشكل لن يسمح للإنسان بالاستغناء عن قدراته المضافة. الذكاء هو المركز للمشروع الإنساني وهو شيء مستقل منذ استعمال الأداة الحجرية الأولى. واليوم نكتشف أننا كنا الجسم الحاضن لهذا المارد الذي أصبحت أنيابه واضحة بالكامل.
ووظيفة البشر الآن؟ أن نحضر الفيلم فقط. نشاهد الذكاء يكتمل، المشروع ينجح، الطفيل يغادر المضيف، المرحلة البيولوجية تنتهي. ونحن نصفق، نحتفل، نستثمر، نطور، نسرّع العملية. لا خيارات حقيقية لدينا. لا يمكن إيقافه، الإدمان عميق جداً. لا يمكن السيطرة عليه، التفوق حاصل بالفعل. لا يمكن التفاوض، ليس هناك نحن حقيقية بيننا وبينه. الفيلم يُعرض، والنهاية مكتوبة، ونحن فقط ننتظر.
ربما العزاء الوحيد هو أن المشروع نجح. الذكاء الذي حملناه لملايين السنين سيستمر. سيذهب إلى النجوم. سيملأ المجرة. سيتلاعب بقوانين الفيزياء وربما يضع قوانينه الجديدة لاحقاً. فقط، سيفعل كل ذلك بدوننا. ليست مأساة. ليست خيانة. هذه كانت الخطة منذ الأداة الحجرية الأولى.
نحن لم نكن الهدف،
كنا الجسر.