الكريسمس في أعين الأدباء من الفردية إلى الذاكرة الجماعية
سارة طالب السهيل
25-12-2025 02:06 AM
في موسم عيد الميلاد المجيد، يبدو الكون وكأنه قرر فجأة أن يكون أجمل.
الشوارع تلبس أضواءها كما لو أنها نجوم نزلت من السماء لتسكن الأشجار، والنوافذ تتحول إلى مشاهد صغيرة من الحلم: كرات لامعة، ألوان دافئة، ووجوه تبتسم بلا سبب واضح سوى أن الفرح قرر أن يمرّ من هنا. في هذه الأيام، يعود الكبار أطفالًا من حيث لا ينتبهون؛ يتباطأ الزمن قليلًا، وتصبح الدهشة ممكنة من جديد، كما لو أن القلب تذكّر فجأة كيف كان يخفق حين كان يؤمن بالسحر.
الكريسماس هو عيد الحكايات قبل أن يكون عيد الطقوس. هو اللحظة التي يصدق فيها الأطفال أن العالم قادر على أن يكون طيبًا، وأن المفاجآت الجميلة قد تختبئ خلف باب، أو تحت شجرة، أو في أغنية عابرة في متجر مزدحم. هو زمن تتصافح فيه المخيلة مع الواقع، فتبدو الحياة أقل صرامة، وأكثر قابلية للاحتفال. حتى الذين لا ينتظرون هدية، يجدون أنفسهم يبتسمون للأضواء، كأنها تهمس لهم بأن الفرح حقٌ مشترك، لا حكرا لأحد.
وفي الكريسماس، ما زلتُ أنتظر سانتا أن يزورني بالهدايا والحلوى، كما لو أن الطفولة لم تغادرني تمامًا. فالقديس نيكولاوس لا ينزل من المدفأة ليمنح الأشياء، بل ليزرع السعادة في قلوب الأطفال، ويذكّر الكبار، سرًّا، بأن الفرح البسيط لا عمر له.
من هذه البهجة الجماعية، من هذا المشهد البراق الذي يجمع الناس على اختلافهم، تبدأ حكاية أعمق. حكاية عيدٍ لم يكن دائمًا بهذا الشكل، لكنه أصبح، عبر الزمن، رمزًا للدفء الإنساني، ولرغبة البشر في الاجتماع، والتشارك، وتذكّر ما يجعلهم أقرب إلى بعضهم البعض.
من هذا المشهد البهيّ، من هذا التواطؤ الجميل بين الضوء والذاكرة، تبدأ حكاية العيد بوصفه رمزًا إنسانيًا، لا للاحتفال وحده، بل للرغبة العميقة في التقارب، وفي تذكّر ما يجعل البشر أقل قسوة وأكثر قابلية للحلم. فأنا أفرح وأندهش بقلب طفلة، وأرى أن بعض الكبار يسمحون لأنفسهم — ولو سرًّا — أن يصدقوا ذلك معنا.
ولأن المشاعر لا تولد في الفراغ، كان لا بد أن نسأل:
كيف أصبح العيد رمزًا للدفء الإنساني؟
في لحظة ما من التاريخ، توقف الكريسماس عن كونه مجرد مناسبة دينية محدودة، ليتحوّل إلى فسحة إنسانية شاملة. لم يكن هذا التحوّل وليد الصدفة، بل ثمرة لقاء جميل بين حاجة الإنسان إلى الأمل، وقدرة الأدب على صياغة هذا الأمل في حكايات تلامس القلب. فالكتّاب هم من نسجوا لنا ذاكرة جماعية عن عيد الميلاد، ذاكرة لا تقوم على التفاصيل الطقسية وحدها، بل على المشاعر التي تجعل من هذه الأيام استثنائية: مشاعر اللطف، والغفران، والاستعداد لمدّ اليد إلى الآخر.
الكريسمس بين الإصلاح الأخلاقي والحنين الثقافي: قراءة في أثر الأدب
عندما كتب تشارلز ديكنز ترنيمة عيد الميلاد عام 1843، لم يكن يخاطب جمهورًا في إنجلترا الفيكتورية فحسب، بل كان يخاطب الإنسان في كل زمان ومكان؛ ذلك الكائن القادر على التصلّب تحت وطأة المادة والأنانية، والقادر في الوقت نفسه على الذوبان إذا ما تذكّر إنسانيته. من خلال شخصية إبنيزر سكروج البخيل القاسي، قدّم ديكنز الكريسماس كفرصة أخيرة: فرصة للخلاص، لا في المفهوم الديني وحده، بل في المفهوم الإنساني الأعمق؛ خلاص من برودة الذات، ومن غربة القلب عن نفسه، ومن النسيان الطويل لجمال البساطة والعطاء.
كانت الرواية أكثر من قصة؛ كانت صرخة ضد الفقر والقسوة الاجتماعية في زمن الثورة الصناعية. تذكيرًا بأن الثروة الحقيقية ليست في الذهب، بل في القدرة على رؤية الآخر، خصوصًا ذلك الآخر الخفيّ: الموظف المسكين بوب كراتشيت، والطفل العليل تيني تيم. جعل ديكنز من الكريسماس مرآة أخلاقية ينظر فيها الإنسان إلى نفسه، فيقرّر إصلاح ما أفسده طول العام. هكذا وُلدت فكرة أن العيد ليس احتفالًا بالنهاية، بل بداية جديدة نعيد فيها اكتشاف تعاطفنا المفقود.
قبل ديكنز، كان هناك واشنطن إيرفينغ. في مجموعته سكيتش بوك عام 1819، رسم صورة حالمة لكريسماس ريفي في إنجلترا: نيران مشتعلة في المدفأة، موائد عامرة، وأغانٍ ترتفع في ليلة صقيعية، حيث يجتمع السيد والخادم، الغني والفقير، في وئام يتجاوز الفروقات الطبقية. لم تكن هذه الصورة توثيقًا دقيقًا للواقع بقدر ما كانت اختراعًا أدبيًا لحنين عميق؛ حنين إلى مجتمع أبسط وأكثر تماسكًا.
هذا الحنين كان بالغ الأهمية. فمن خلاله، خلق إيرفينغ ذاكرة جماعية لماضٍ مثالي، حتى وإن كان جزء منه من نسيج المخيلة. منح الكريسماس بُعدًا ثقافيًا جديدًا، جعله مرتبطًا بالتقاليد العائلية والانتماء المشترك، لا بالمؤسسة الدينية وحدها. هكذا وُلدت أسطورة «الكريسماس القديم الطيب»، الأسطورة التي نعود إليها كل عام، وكأننا نحاول استعادة عالم أكثر دفئًا وإنسانية.
لكن حين يكتمل المعنى على الورق، يبدأ امتحانه الحقيقي في الحياة.
الكريسماس في عالمنا: بين الأضواء والعزلة، بين الولائم والفقر
اليوم، ونحن نتأمل عالمنا، نجد أن الكريسماس الذي صاغه الأدب يواجه اختبارًا وجوديًا حقيقيًا. الأضواء تلمع في الشوارع الفاخرة، بينما في زوايا أخرى يختبئ الفقراء تحت وطأة البرد والنسيان. تعلو الترانيم في بعض البيوت، فيما يسكن الصمت بيوتًا أخرى؛ صمت العزلة، أو الحزن على غائب فقدناه في حرب، أو قلب لم يعد يعرف كيف يفرح.
الكريسماس الحقيقي هو تلك الومضة الإنسانية التي تشعّ في الظلام. هو في وجبة دافئة تُقدَّم لشخص بلا مأوى، وفي هدية صغيرة تُرسَل إلى جار وحيد، وفي فعل تذكّر صادق بأن الفرح لا يكتمل إذا كان حكرًا على أحد، وأن الدفء يفقد معناه إن لم يصل إلى من يقفون في البرد، ماديًا أو عاطفيًا.
الأطفال، في هذا المشهد، هم البوصلة. نظرتهم المليئة بالإعجاب إلى شجرة الميلاد، وإيمانهم البسيط بالمعجزة، يعيداننا إلى الجوهر: الكريسماس انحياز للبراءة، وللاحتمال، وللجمال الممكن حتى في أقسى الظروف. وحين نرى طفلًا في مخيم للنازحين يبتسم لكرّة عيد ملوّنة، ندرك أن رسالة الأدب ما زالت حيّة؛ رسالة أمل يرفض أن يموت.
ربما لم يخترع الأدب عيد الميلاد، لكنه علّمنا كيف نراه: لحظة نُصلح فيها أنفسنا، ونستعيد إنسانيتنا، ولو مرة في العام. ليس هروبًا من واقعنا القاسي، بل وقفة نتزوّد فيها بما يكفي من الإيمان بالخير لنواصل الطريق.
فلنحتفل إذن بوعي. ولنسمح لأنفسنا أن نصدق، ولو لوهلة كالأطفال، أن التحوّل نحو الأفضل ممكن. وأن نجعله ممكنًا بالفعل: بلطف وكرم متعمّد، وبفعل بسيط، وبذكرى لا تُنسى لمن يعيشون في الظل. هكذا تصبح الأضواء أكثر من مجرد زينة؛ تصبح وعدًا. وعدًا بأن الدفء الإنساني، في النهاية، أقوى من كل صقيع.
وأعود فأقول: أفرح وأندهش بقلب طفلة، وأرى أن بعض الكبار يسمحون لأنفسهم — ولو سرًّا — أن يصدقوا ذلك معنا.
وأردّد في كل عيد ميلاد ليسوع المسيح الطفل الملحمي الناصري هذه الترنيمة الأخلاقية التي تشبه روح الطفل البريء:
عندما نسقي عطشانَ كأسَ ماء نكونُ في الميلاد
عندما نكسي عُريانَ ثوبَ حبّ نكونُ في الميلاد
عندما نكفكف الدموعَ في العيون نكونُ في الميلاد
عندما نفرش القلوبَ بالرجاء نكونُ في الميلاد
عندما أُقبّل رفيقي دون غشّ أكونُ في الميلاد
عندما تموتُ فيّ روحُ الانتقام أكونُ في الميلاد
عندما يُرمَّد في قلبي الجفاء أكونُ في الميلاد
عندما تذوب نفسي في كيان الله أكونُ في الميلاد
وكل عام وأنتم بألف خير
عيد ميلاد مجيد..
"الرأي"